وقولهم : (إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) يعنون أنّه ليأخذ بأعين النّاس حتى يخيل إليهم العصا حيّة ، واليد بيضاء ، وكان موسى عليه الصّلاة والسّلام آدم اللّون ، ويرى الشّيء بخلاف ما هو عليه ، وكان السّحر غالبا في ذلك الزمان ، ولا شكّ أن مراتب السّحر كانت متفاوتة ، فالقوم زعموا أن موسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ كان في النّهاية من علم السّحر ، فلذلك أتى بتلك الصّيغة ، ثم ذكروا أنّه إنّما أتى بذلك السّحر طلبا للملك والرّئاسة فقالوا : (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ).
قوله تعالى : (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ) (١١٠)
قوله : (فَما ذا تَأْمُرُونَ) قد تقدّم الكلام على «ماذا» ، والجمهور على «تأمرون» بفتح النّون ، وروى كردم (١) عن نافع كسرها ، وعلى كلتا القراءتين يجوز أن تكون «ماذا» كلمة اسما واحدا في محلّ نصب على أنّه مفعول ثان ل «تأمرون» بعد حذف الياء ، ويكون المفعول الأوّل ل «تأمرون» محذوفا ، وهو ياء المتكلم والتقدير : بأي شيء تأمرونني.
وعلى قراءة نافع لا تقول إنّ المفعول الأوّل محذوف ، بل هو في قوّة المنطوق به ؛ لأنّ الكسرة دالة عليه ، فهذا الحذف غير الحذف في قراءة الجماعة.
ويجوز أن تكون «ما» استفهاما في محل رفع بالابتداء ، و «ذا» موصول ، وصلته «تأمرون» ، والعائد محذوف ، والمفعول الأوّل أيضا محذوف على قراءة الجماعة ، وتقدير العائد منصوب المحل غير معدى إليه بالباء فتقديره : فما الذي تأمرونيه.
وقدّره ابن عطية «تأمروني به» ، وردّ عليه أبو حيّان بأنّه يلزم من ذلك حذف العائد المجرور بحرف لم يجر الموصول بمثله ، ثم اعتذر عنه بأنّه أراد التقدير الأصلي ، ثم اتّسع فيه بأن حذف الحرف ، فاتّصل الضّمير بالفعل. وهذه الجملة هل هي من كلام الملأ ، ويكونون قد خاطبوا فرعون بذلك وحده تعظيما له كما يخاطب الملوك بصيغة الجمع ، أو يكونون قالوه له ولأصحابه أو يكون من كلام فرعون على إضمار قول أي : فقال لهم فرعون فماذا تأمرون ويكون كلام الملأ قد تم عند قوله : (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) ويؤكد كونها من كلام فرعون قوله تعالى : (قالُوا أَرْجِهْ).
وهل «تأمرون» من الأمر المعهود أو من الأمر الذي بمعنى المشاورة؟ والثاني منقول عن ابن عباس (٢).
وقال الزمخشريّ : «هو من أمرته فأمرني بكذا أي : شاورته فأشار عليّ برأي».
قوله تعالى : (قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ)(١١١)
قوله : (قالُوا أَرْجِهْ) في هذه الكلمة هنا وفي «الشّعراء» [٣٦] ست قراءات في
__________________
(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٣٧ ، والبحر المحيط ٤ / ٣٥٩ ، والدر المصون ٣ / ٣١٧.
(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٧ / ١٦٤) عن ابن عباس.