وقال غيره : «إنّما أتى هنا ب «أن» المصدرية قبل الفعل بخلاف قوله تعالى : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) [التوبة : ١٠٦]. لأن «أن» وما بعدها هنا : إمّا مفعول به أو مبتدأ ، والمفعول به والمبتدأ لا يكونان فعلا صريحا ، بل لا بدّ أن ينضمّ إليه حرف مصدري يجعله في تأويل اسم ، وأما آية التّوبة فالفعل بعد «إمّا» خبر ثان ل «آخرون» ، وإمّا صفة له ، والخبر والصّفة يقعان جملة فعلية من غير حرف مصدري.
وحذف مفعول الإلقاء للعلم به والتقدير : إمّا أن تلقي حبالك وعصيّك ـ لأنّهم كانوا يعتقدون أن يفعل كفعلهم ـ أو نلقي حبالنا وعصيّنا.
قوله تعالى : (قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ)(١١٦)
قوله : (قالَ أَلْقُوا) وفيه سؤال : وهو أنّ إلقاءهم كان سحرا ومعارضة للمعجزة ، وذلك كفر ، فكيف يجوز لموسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يأمرهم به؟.
والجواب من وجوه :
أحدها : أنّه عليه الصّلاة والسّلام إنما أمرهم بشرط أن يعلموا في فعلهم أن يكون حقّا ، فإذا لم يكن كذلك فالأمر هناك كقول القائل لغيره : اسقني الماء من الجرّة ، فهذا الكلام إمّا أن يكون بشرط حصول الماء في الجرّة ، فأمّا إذا لم يكن فيها ماء فلا أمر ألبتّة كذلك هاهنا.
قال الفرّاء : «المعنى : ألقوا إن كنتم محقّين ، وألقوا على ما يصح ويجوز».
وقيل : تهديد لهم أي : ابتدأوا بالإلقاء فسترون ما يحل بكم من الافتضاح.
وثانيها : أنّ القوم إنّما جاءوا لإلقاء تلك الحبال والعصي ، وعلم موسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ أنّهم لا بد وأن يفعلوا ذلك وإنما وقع التّخيير في التّقديم والتّأخير ، فعند ذلك أذن لهم في التقديم ازدراء لشأنهم ، وقلّة مبالاته بهم وثقة بما وعده الله به من التّأييد ، وأنّ المعجزة لن يغلبها سحر أبدا ، ولأنّ الأمر لا يستلزم الإرادة.
وثالثها : قوله عليهالسلام كان يريد إبطال ما أتوا به من السحر وذلك لا يمكن إلا بتقديمهم فأذن لهم في الإتيان بذلك السحر ليمكنه الإقدام على إبطاله مثل من يريد سماع شبهة ملحد ليجيب عنها ويكشف عن ضعفها وسقوطها فيقول له : هات وقل واذكرها ، وبالغ في تقريرها ، ومراده من ذلك أنه إذا أجاب عنها بعد هذه المبالغة فإنّه يظهر لكل أحد ضعفها وسقوطها ، فكذا هاهنا.
وقال الفرّاء (١) : في الكلام حذف ، والمعنى : قال لهم موسى : إنكم لن تغلبوا
__________________
(١) ينظر : تفسير القرطبي ٧ / ١٦٥.