واعلم أنّ موسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ لما قالوا له : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) أجابهم بوجوه كثيرة : أوّلها : حكم عليهم بالجهل فقال : (إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ).
وثانيها : قوله : «إنّ هؤلاء متبّر ما هم فيه» أي : بسبب الخسران والهلاك.
وثالثها : قوله : (وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي هذا العمل الشّاق لا يفيدهم نفعا في الدّنيا والدّين.
ورابعها : استفهامه منهم على وجه الإنكار والتّوبيخ ، فقال : (أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) أي : أن الإله ليس شيئا يطلب ويتخذ ، بل الإله هو الذي يكون قادرا على الإنعام بالإيجاد وإعطاء الحياة ، وجميع النّعم ، وهو المراد بقوله : (وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) ، فهذا هو الذي يجب على الخلق عبادته ، فكيف يجوز العدول عن عبادته إلى عبادة غيره.
قوله : (وَهُوَ فَضَّلَكُمْ) يجوز أن يكون في محلّ نصب على الحال ، إمّا من الله وإمّا من المخاطبين ؛ لأنّ الجملة مشتملة على كلّ من ضميريهما ، ويجوز ألّا يكون لها محلّ ، لاستئنافها.
وفي هذا التّفضيل قولان : الأول : أنّه تعالى فضلكم على عالمي زمانكم ، الثاني : أنّه تعالى خصّهم بتلك الآيات القاهرة ، ولم يحصل مثلها لأحد من العالمين ، وإن كان غيرهم فضلهم بسائر الخصال ، مثل : رجل تعلم علما واحدا ، وآخر تعلم علوما كثيرة سوى ذلك العلم ، فصاحب العلم الواحد يفضل على صاحب العلوم الكثيرة بذلك الواحد ، إلّا أنّ صاحب العلوم الكثيرة يفضل على صاحب العلم الواحد في الحقيقة.
قوله تعالى : (وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (١٤١) وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (١٤٣)
قوله : (وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ). قرأ العامة مسندا إلى المعظّم ، وابن عامر أنجاكم مسندا إلى ضمير الله (١) تعالى جريا على قوله : (وَهُوَ فَضَّلَكُمْ) ، وقرىء (٢) : «نجّيناكم» مشدّدا ،
__________________
(١) ينظر : إعراب القراءات ١ / ٢٠٤ ، وحجة القراءات ٢٩٤ ، وإتحاف فضلاء البشر ٢ / ٦١.
(٢) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٣٧٨ ، والدر المصون ٣ / ٣٣٧.