قوله : «أرني» مفعوله الثّاني محذوف ، تقديره : أرني نفسك ، أو ذاتك المقدّسة ، وإنّما حذفه مبالغة في الأدب ، حيث لم يواجهه بالتّصريح بالمفعول ، وأصل «أرني» «أراني» فنقلت حركة الهمزة ، وقد تقدّم تحريره.
فصل
فإن قيل : النّظر إمّا أن يكون عبارة عن الرّؤية ، أو عن مقدّمتها ، وهي تقليب الحدقة إلى جانب المرئي التماسا لرؤيته ، وعلى التّقدير الأول : يكون المعنى : أرني حتّى أراك ، وهذا فاسد ، وعلى التقدير الثاني : يكون المعنى : أرني حتى أقلّب الحدقة إلى جانبك وهذا فاسد لوجهين : أحدهما : أنّه يقتضي إثبات الجهة. والثاني : أنّ تقليب الحدقة إلى جهة المرئي مقدمة للرؤية ؛ فجعله كالنّتيجة عن الرّؤية وذلك فاسد.
فالجواب : أن معنى أرني : اجعلني متمكنا من رؤيتك حتّى أنظر إليك وأراك.
فإن قيل : كيف سأل الرّؤية وقد علم أنّه لا يرى؟
قال الحسن : هاج به الشّوق ؛ فسأل الرؤية.
وقيل : سأل الرّؤية ظنّا منه أنّه يجوز أن يرى في الدّنيا.
قوله : «لن تراني» قد تقدّم أنّ «لن» لا يلزم من نفيها التّأبيد ، وإن كان بعضهم فهم ذلك ، حتى إنّ ابن عطيّة قال «فلو بقينا على هذا النّفي المجرّد لتضمن أنّ موسى لا يراه أبدا ، ولا في الآخرة لكن ورد من جهة أخرى في الحديث المتواتر أنّ أهل الجنّة يرونه».
قال شهاب الدّين (١) : «وعلى تقدير أنّ «لن» ليست مقتضية للتّأبيد ، فكلام ابن عطيّة وغيره ممّن يقول : إنّ نفي المستقبل بعدها يعمّ جميع الأزمنة المستقبلة ـ صحيح ، لكن لمدرك آخر ، وهو أنّ الفعل نكرة ، والنكرة في سياق النّفي تعمّ ، وللبحث فيه مجال».
والدليل على أنّ «لن» لا تقتضي التّأبيد قوله تعالى : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) [البقرة : ٩٥] أخبر عن اليهود ، ثم أخبر عنهم أنهم يتمنون الموت في الآخرة يقولون : (يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) [الزخرف : ٧٧] (يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ) [الحاقة : ٢٧].
فإن قيل : كيف قال : «لن تراني» ولم يقل : لن تنظر إليّ ، حتّى يطابق قوله أنظر إليك؟ فالجواب أنّ النّظر لمّا كان مقدمة للرّؤية كان المقصود هو الرّؤية لا النّظر الذي لا رؤية معه.
والاستدراك في قوله : (وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ) واضح ، فإن قلت : كيف اتصل الاستدراك في قوله : (وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ) فالجواب : المقصود منه تعظيم أمر الرّؤية ، وأنّ أحدا لا يقوى على رؤية الله تعالى إلّا إذا قواه الله بمعونته وتأييده ؛ ألا ترى أنّه لما
__________________
(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ٣٣٨.