أحدا قبلنا ، ولا تعطيه أحدا بعدنا ، فأنكر الله عليهم ذلك فأخذتهم الرجفة.
واحتجوا لهذا القول بوجوه : أحدها : أنّه تعالى ذكر قصة ميقات الكلام ، وطلب الرّؤية ثم أتبعها بذكر قصة العجل ثم أتبعها بهذه القصة ، وظاهر الحال يقتضي أن هذه القصة مغايرة للقصة المتقدمة ، ويمكن أن يكون عودا إلى تتّمة الكلام في القصة الأولى ، إلّا أنّ الأليق بالفصاحة إتمام الكلام في القصّة الواحدة في موضع واحد ، ثم الانتقال منها بعد تمامها إلى غيرها ، فأما ذكر بعض القصّة ، ثم الانتقال إلى قصّة أخرى ، ثم الانتقال منها بعد تمامها إلى بقية الكلام في القصّة الأولى ؛ فإنّه يوجب نوعا من الخبط والاضطراب ، والأولى صون كلام الله عنه. وثانيها : أن في ميقات الكلام وطلب الرؤية لم ينكر منهم إلّا قولهم (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) [النساء : ١٥٣] فلو كانت الرجفة المذكورة ههنا إنما حصلت بسبب هذا القول لوجب أن يقال : أتهلكنا بما يقوله السفهاء منّا؟ فلمّا لم يقل ذلك بل قال (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) علمنا أن هذه الرجفة إنما حصلت بإقدامهم على عبادة العجل لا على القول.
وثالثها : أن في ميقات الكلام أو الرؤية خرّ موسى صعقا وجعل الجبل دكّا وأمّا هذا الميقات فذكر تعالى أن القوم أخذتهم الرّجفة ، ولم يذكر أن موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ أخذته الرّجفة ، وكيف يقال أخذته الرجفة ، وهو الذي قال : (لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ) [الأعراف : ١٥٥] وهذه الخصوصيات تدلّ على أن هذا الميقات غير ميقات الكلام وطلب الرّؤية.
وقيل : المراد بهذا الميقات ما روي عن علي ـ رضي الله عنه ـ قال : إنّ موسى وهارون انطلقا إلى سفح جبل ؛ فنام هارون فتوفّاه الله ، فلمّا رجع موسى قالوا إنّه هو الذي قتل هارون ، فاختار موسى سبعين رجلا وذهبوا إلى هارون فأحياه الله وقال ما قتلني أحد ، فأخذتهم الرّجفة هنالك (١).
فصل
اختلفوا في تلك الرّجفة.
فقيل : إنّها رجفة أوجبت الموت.
قال السّديّ : قال موسى يا رب كيف أرجع إلى بني إسرائيل ، وقد أهلكت خيارهم ولم يبق منهم رجل واحد؟ فما أقول لبني إسرائيل ، وكيف يأمنوني على أحد منهم؟ فأحياهم الله (٢). فمعنى قوله (لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ) أنّ موسى خاف أن يتّهمه
__________________
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٧٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٢٣٧) وزاد نسبته لابن أبي الدنيا في كتاب من عاش بعد الموت وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٧٣).