فصل في تخصيص العموم بالقياس
احتجّ من قال «إنّه لا يجوز تخصيص عموم بالقياس» بهذه الآية ؛ فإنّه لو كان تخصيص النّصّ بالقياس جائزا لما استوجب إبليس هذا التّعنيف الشّديد ، والتوبيخ العظيم ، ولمّا حصل ذلك دلّ على أن تخصيص عموم النّصّ بالقياس لا يجوز.
وبيانه أنّ قوله تعالى للملائكة : (اسْجُدُوا لِآدَمَ) خطاب عامّ يتناول جميع الملائكة ، ثم إنّ إبليس أخرج نفسه من هذا العموم بالقياس ، وهو أنّه مخلوق من النّار ، والنّار أشرف من الطّين ، ومن كان أصله أشرف فهو أشرف فيلزم كون إبليس أشرف من آدم ، ومن كان أشرف من غيره فإنّه لا يؤمر بخدمته لأن هذا الحكم ثابت في جميع النّظائر ، ولا معنى للقياس إلّا ذلك فثبت أنّ إبليس ما عمل في هذه الواقعة شيئا إلّا أنه خصص العموم بالقياس ، فاستوجب بذلك الذّمّ الشّديد ، فدلّ ذلك على أنّ تخصيص النّصّ بالقياس لا يجوز.
وأيضا فالآية تدلّ على صحّة هذه المسألة من وجه آخر ، وهو أن إبليس لمّا ذكر هذا القياس قال تعالى : (فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) [الآية ١٣ من الأعراف] ووصف إبليس بكونه «متكبّرا» بعد أن حكى عنه القياس [الذي يوجب تخصيص النص ، وهذا يقتضي أنّه من حاول تخصيص النّصّ بالقياس](١) تكبّر على الله ، ودلّت هذه الآية على أن التّكبّر على الله يوجب العقاب الشّديد ، والإخراج من زمرة الأولياء والإدخال في زمرة الملعونين ، فدلّ ذلك على أنّ تخصيص النّصّ بالقياس لا يجوز ، وهذا هو المراد بما نقله الواحديّ في «البسيط» عن ابن عباس أنّه قال : «كانت الطّاعة أولى بإبليس من القياس فعصى ربّه ، وقاس».
وأوّل من قاس إبليس ، وكفر بقياسه ، فمن قاس الدّين بشيء من رأيه قرنه الله مع إبليس.
والجواب أنّ القياس الذي يبطل النّصّ بالكليّة باطل ، أمّا القياس الذي يخصّص [النّص] في بعض الصّور لم قلتم : إنه باطل؟
وتقريره : أنه لو قبح أمر من كان مخلوقا من النّار بالسّجود لمن كان مخلوقا من الأرض لكان قبح أمر من كان مخلوقا من النّور المحض بالسّجود لمن كان مخلوقا من الأرض أولى ؛ لأن النّور أشرف من النّار ، وهذا القياس يقتضي أن يقبّح أمر كل واحد من الملائكة بالسّجود لآدم ، فهذا القياس يقتضي رفع مدلول النّصّ بالكليّة وأنه باطل (٢).
أمّا القياس الذي يقتضي تخصيص مدلول النّصّ العامّ لم قلتم : إنّه [باطل؟
__________________
(١) سقط في أ.
(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٢٩.