ويمكن أن يجاب بأن يقال : إن كونه أشرف من غيره يقتضي قبح أن يلجأ الأشرف](١) إلى خدمة الأدنى ، أما لو رضي ذلك الشّريف بتلك الخدمة لم يقبح ؛ لأنه لا اعتراض عليه في أن يسقط حقّ نفسه ، أمّا الملائكة فقد رضوا بذلك فلا بأس به ، وأمّا إبليس فإنه لم يرض بإسقاط هذا الحق ، فوجب أن يقبح أمره بذلك السجود ، فهذا قياس مناسب ، وإنه يوجب تخصيص النّصّ ، ولا يوجب رفعه بالكليّة ولا إبطاله ، فلو كان تخصيص النّصّ بالقياس جائزا لما استوجب الذّم العظيم ، فلمّا استوجب استحقاق هذا الذم العظيم علمنا أنّ ذلك إنّما كان لأجل أن تخصيص النّصّ بالقياس لا يجوز.
فصل في بيان قوله تعالى (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ)
قوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) لا شكّ أن قائل هذا القول هو الله سبحانه وتعالى ، وقوله : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) لا شكّ أنّ قائل هذا القول هو إبليس ، وقوله : (فَاهْبِطْ مِنْها) لا شكّ أن قائل هذا القول هو الله سبحانه وتعالى ، وقوله : (فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) لا شكّ أنّ هذا قول إبليس ، ومثل هذه المناظرة بين الله وبين إبليس مذكور في سورة «ص» (٢).
وإذا ثبت هذا فنقول : إنه لم يتّفق لأحد من أكابر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مكالمة مع الله مثل ما اتّفق لإبليس ، وقد عظّم الله شرف موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ بقوله : (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) [الأعراف : ١٤٣] ، (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [النساء : ١٦٤] ، فإذا كانت المكالمة تفيد الشّرف العظيم فكيف حصلت على أعظم الوجوه لإبليس؟ وإن لم يوجب الشّرف العظيم فكيف ذكره الله تعالى في معرض التشريف لموسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ.
والجواب من وجهين (٣) :
أحدهما : قال بعض العلماء : إنّه تعالى قال ذلك لإبليس بواسطة على لسان بعض الملائكة ؛ لأنه ثبت أن غير الأنبياء لا يخاطبهم الله إلا بواسطة.
الثاني : أنّه تعالى تكلّم مع إبليس بلا واسطة لكن على وجه الإهانة بدليل قوله تعالى : (فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) ، وتكلّم مع الأنبياء على سبيل الإكرام بدليل قوله [تعالى] لموسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ : (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) [طه : ١٣] ، وقوله : (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) [طه : ٤١] وهذا نهاية الإكرام.
قوله تعالى : (قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ)(١٣)
الضمير في «منها» قال ابن عباس : «يريد من الجنّة ؛ لأنه كان من سكّانها» (٤)
__________________
(١) سقط في أ.
(٢) سيأتي في تفسير سورة (ص).
(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٣٠.
(٤) تقدم.