وقيل : وسوس إليهم أنّكم إنّما نهيتم عن الأخذ فاتّخذوا حياضا على شاطىء البحر ، تسوقون الحيتان إليها يوم السبت ، ثم تأخذونها يوم الأحد ، ففعلوا ذلك زمانا ، ثمّ تجرّءوا على السبت وقالوا ما نرى السبت إلّا قد أحلّ لنا ، فأخذوا ، وأكلوا وباعوا فنهاهم بعضهم ، وبعضهم فعل ، ولم ينته ، وبعضهم سكت وقالوا : (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ) [الأعراف : ١٦٤] فلمّا لم ينتهوا قال النّاهون لا نساكنكم ، فقسموا القرية بجدار ، للمسلمين باب ، وللمعتدين باب ، ولعنهم داود ، فأصبح النّاهون ذات يوم ، ولم يخرج من المعتدين أحد ، فقالوا : إن لهم شأنا ، لعلّ الخمر غلبتهم ، فعلوا الجدار ، فإذا هم قردة.
فصل
دلّت هذه الآية على أنّ الحيل في تحليل الأمور الّتي حرمها الشارع محرمة ؛ كالغيبة ، ونكاح المحلّل ، وما أشبههما من الحيل ، ودلّت على أنّه تعالى لا يجب عليه رعاية الصّلاح والإصلاح لا في الدّين ولا في الدنيا ؛ لأنّه تعالى علم أن تكثير الحيتان يوم السّبت مما يحملهم على المعصية والكفر ، فلو وجب عليه رعاية الصّلاح لوجب أن لا يكثر الحيتان في ذلك اليوم صونا لهم عن الكفر والمعصية ، فلمّا فعل علمنا أن رعاية الصّلاح لا تجب على الله تعالى.
قوله : (وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً).
اختلفوا في الذين قالوا هذا القول.
فقيل : كانوا من الفرقة الهالكة ؛ لأنّهم لمّا قيل لهم : انتهوا عن هذا العمل قبل أن ينزل بكم العذاب ؛ فإنكم إن لم تنتهوا فإنّ الله ينزل بكم بأسه فأجابوا بقولهم : (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ).
فقال النّاهون (مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ) أي موعظتنا (مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ) ، والأصحّ أنها من قول الفرقة السّاكتة جوابا للنّاهية ، قالوا : (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ ... مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ).
ومعناه : أنّ الأمر بالمعروف واجب علينا ، فعلينا موعظة هؤلاء عذرا إلى الله ، «وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» أي : يتّقوا الله ويتركوا المعصية ، ولو كان الخطاب مع المعتدين لقال : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
«معذرة» قرأ العامّة : «معذرة» رفعا على أنه خبر ابتداء مضمر ، أي : موعظتنا معذرة.
وقرأ حفص عن عاصم ، وزيد بن علي (١) ، وعيسى بن عمر ، وطلحة بن مصرف : «معذرة» نصبا وفيها ثلاثة أوجه :
__________________
(١) ينظر : السبعة ٢٩٦ ، والحجة ٤ / ٩٧ ، وإعراب القراءات ١ / ٢١٠ ـ ٢١١ وحجة القراءات ٣٠٠ ، وإتحاف ٢ / ٦٦.