عنه : هلكت الفرقتان ونجت النّاهية ، وكان ابن عباس إذا قرأ هذه الآية بكى وقال : إنّ هؤلاء الذين سكتوا عن النّهي عن المنكر هلكوا ، ونحن نرى أشياء ننكرها ، ثم نسكت ، ولا نقول شيئا.
وقال الحسن : نجت الفرقتان ، وهلكت العاصية (١) ، لأنهم لما قالوا : (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً(٢) اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ) دلّ على أنّهم أنكروا أشد الإنكار ، وأنّهم إنّما تركوا وعظهم ؛ لأنه غلب على ظنهم أنهم لا يلتفتون إلى ذلك الوعظ.
فإن قيل : إن ترك الوعظ معصية ، والنّهي عنه أيضا معصية ؛ فوجب دخول هؤلاء التّاركين للوعظ النّاهين عنه تحت قوله : (وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ).
فالجواب : هذا غير لازم ؛ لأنّ النّهي عن المنكر إنّما يجب على الكفاية ، ولو قام به البعض سقط عن الباقين.
وروي عن ابن عبّاس أنه قال : أسمع الله يقول : (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ) ، فلا أدري ما فعلت الفرقة السّاكتة (٢)؟
قال عكرمة : قلت له : جعلني الله فداك ، ألا تراهم قد أنكروا ، وكرهوا ما هم عليه وقالوأ : (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ) ، وإن لم يقل الله أنجيتهم لم يقل : أهلكتهم ، فأعجبه قولي ورضي به ، وأمر لي ببردين فكسانيهما ؛ وقال : نجت السّاكتة ، وهذا قول يمان بن رباب ، والحسن ، وابن زيد.
قوله : (بِعَذابٍ بَئِيسٍ). أي : شديد.
قرأ نافع ، وأبو جعفر ، وشيبة بيس (٣) بياء ساكنة ، وابن عامر بهمزة ساكنة. وفيهما أربعة أوجه :
أحدها : أنّ هذا في الأصل فعل ماض سمّي به فأعرب كقوله عليه الصّلاة والسّلام : «أنهاكم عن قيل وقال» بالإعراب والحكاية ، وكذا قولهم : «مذ شبّ إلى دبّ ومذ شبّ إلى دبّ» ، فلما نقل إلى الاسميّة صار وصفا ك : نضو ونقض.
والثاني : أنّه وصف وضع على فعل ك : حلف.
الثالث : أن أصله بئيس كالقراءة المشهورة ، فخفّف الهمزة ؛ فالتقت ياءان ، ثم كسر الياء إتباعا ، كرغيف وشهيد فاستثقل توالي ياءين بعد كسرة ، فحذفت الياء المكسورة ؛ فصار اللّفظ «بيس» وهو تخريج الكسائيّ.
__________________
(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٥ / ٣٣) عن الحسن.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٩٥ ـ ٩٦) من طريق عكرمة عن ابن عباس.
(٣) ينظر في قراءات هذه الكلمة : السبعة ٢٩٧ ، والحجة ٤ / ٩٨ ـ ١٠٢ وإعراب القراءات ٢ / ٢١١ ، وحجة القراءات ٣٠٠ ، وإتحاف ٢ / ٦٦ ـ ٦٧.