حصلت له بنية وحمية ، وإذا كان كذلك فمجموع تلك الأشخاص الذين خرجوا إلى الوجود من أول تخليق آدم إلى قيام القيامة لا تحويهم عرصة الدنيا ، فكيف يمكن أن يقال إنّهم بأسرهم حصلوا دفعة واحدة في صلب آدم ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ.
السادس : قالوا هذا الميثاق إمّا أن يكون قد أخذه الله منهم في ذلك الوقت ليصير حجة عليهم في ذلك الوقت أو ليصير حجة عليهم عند دخولهم في الدّنيا.
والأول باطل لانعقاد الإجماع على أن بسبب ذلك القدر من الميثاق لا يصيرون مستحقّين للثواب والعقاب ، ولا يجوز أن يكون المطلوب منه أن يصير ذلك حجة عليهم عند دخولهم في الدنيا ، لأنهم لمّا لم يذكروا ذلك الميثاق في الدنيا فكيف يصير عليهم حجة في التمسك بالإيمان.
السابع : قال الكعبيّ : إن حال أولئك الذّر لا يكون أعلى في الفهم والعلم من حال الأطفال ، فلمّا لم يمكن توجيه التّكاليف على الطّفل ، فكيف يمكن توجيهه على أولئك الذّرّ؟ وأجاب الزّجّاج عنه بما تقدّم من تشبيهه بقصة النّملة ، وأيضا لا يبعد أن يعطي الله الجبل الفهم حتى يسبح ، كما قال : (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ) [الأنبياء : ٧٩] وكما أعطى الله العقل للبعير حتّى سجد للرّسول ، وللنّخلة حتى سمعت وانقادت حين دعيت فكذا ههنا.
الثامن : أن أولئك الذّر في ذلك الوقت إمّا أن يكونوا كاملي العقول أم لا ، فإن كان الأوّل كانوا مكلفين لا محالة ، وإنما يبقون مكلفين إذا عرفوا الله تعالى بالاستدلال ولو كانوا كذلك لما امتازت أحوالهم في ذلك الوقت على أحوالهم في هذه الحياة الدّنيا ، فلو افتقر التكليف في الدّنيا إلى سبق ذلك الميثاق ؛ لافتقر التكليف في وقت ذلك الميثاق إلى سبق ميثاق آخر ولزم التّسلسل وهو محال.
وإن قيل : إنّهم ما كانوا كاملي العقول في ذلك الوقت ، فيمتنع توجيه الخطاب والتّكليف عليهم.
التاسع : قوله تعالى : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ) [الطارق : ٥ ـ ٦] ولو كانت تلك الذّرات عقلاء فاهمين لكانوا موجودين قبل هذا الماء الدّافق ، ولا معنى للإنسان إلّا ذلك الشيء فحينئذ لا يكون الإنسان مخلوقا من الماء الدّافق وذلك رد لنصّ القرآن.
فإن قالوا : لم لا يجوز أن يقال إنّه تعالى خلقه كامل العقل والفهم والقدرة عند الميثاق ثم أزال عقله وفهمه وقدرته؟ ثم إنه خلقه مرة أخرى في رحم الأم وأخرجه إلى الحياة؟
قلنا : هذا باطل ؛ لأنه لو كان الأمر كذلك لما كان خلقه من النطفة خلقا على سبيل الابتداء بل يجب أن يكون خلقا على سبيل الإعادة ، وأجمع المسلمون على أنّ خلقه من النطفة هو الخلق المبتدأ ، فبطل ما ذكرتموه.