العاقل لا يختار الغواية مع العلم بكونها غواية ، والثّاني أيضا باطل ، وإلّا لزم إما التّسلسل وإمّا الدّور ، والثّالث هو المقصود.
فصل في المراد من الإقعاد
المراد من قوله : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) أنّه يواظب على الإفساد مواظبة لا يفتر عنها ، ولهذا المعنى ذكر القعود ؛ لأن من أراد المبالغة في تكميل أمر من الأمور قعد حتى يصير فارغ البال ، فيمكنه إتمام المقصود. ومواظبته على الإفساد ، هي مواظبته على الوسوسة بحيث لا يفتر عنها (١).
قال المفسّرون : معنى (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ) أي : بالصّدّ عنه وتزيين الباطل ؛ حتّى يهلكوا كما هلك ، أو يضلوا كما ضلّ ، أو يخيبوا كما خاب.
فإن قيل : هذه الآية دلّت على أنّ إبليس كان عالما بالدّين الحقّ ؛ لأنه قال : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) وصراطه المستقيم هو دينه الحقّ ، ودلّت أيضا على أن إبليس كان عالما بأنّ الذي هو عليه من الاعتقاد هو محض الغواية والضّلال لأنه لو لم يكن كذلك لما قال : (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) [الحجر : ٣٩] ، وإذا كان كذلك فكيف يمكن أن يرضى إبليس بذلك المذهب مع علمه بكونه ضلالا وغواية ، وبكونه مضادا للدّين الحقّ ، ومنافيا للصّراط المستقيم ، فإنّ المرء إنّما يعتقد الاعتقاد الفاسد إذا غلب على ظنّه كونه حقّا ، فأمّا من علم أنّه باطل وضلال وغواية يستحيل أن يختاره ، ويرضى به ، ويعتقده.
فالجواب : أنّ من النّاس من قال : إنّ كفر إبليس كفر عناد لا كفر جهل ، ومنهم من قال: كفره كفر جهل. وقوله : (فَبِما أَغْوَيْتَنِي) ، وقوله : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) يريد به في زعم الخصم ، وفي اعتقاده (٢).
فصل في بيان هل على الله رعاية المصالح (٣)
احتجّ أهل السّنّة بهذه الآية على أنّه لا يجب على الله رعاية مصالح العبد في دينه ،
__________________
(١) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٣٢.
(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٣٣.
(٣) قالت المعتزلة : يجب على الله تعالى فعل الصلاح والأصلح.
والصلاح هو ما يقابل الفساد كالإيمان في مقابلة الكفر والغنى بالنسبة للفقر والأصلح ما قابل الصلاح كأعلى الجنة في مقابلة أدناها.
والصلاح والأصلح الواجبان على الله تعالى بالنسبة للدين والدنيا كما قال معتزلة بغداد ويراد بهما الأوفق في الحكمة والتدبير بالنسبة للشخص لا بالنسبة للكل وقيل بالنسبة إلى علم الله تعالى.
أو الصلاح والأصلح في الدين فقط كما رأى معتزلة البصرة وهما الأنفع وهل الأنفع بالنسبة إلى علم الله أو بالنسبة إلى الشخص ، خلاف لم نقف فيه على حقيقة ما نقل عن المعتزلة بالضبط لتضارب النقل عنهم. ـ