قال الفراء : تقول العرب : اجتبيت الكلام واختلقته وارتجلته إذا افتعلته من قبل نفسك ؛ لأنهم كانوا يقولون : (إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ) [الفرقان : ٤] أو يقال : هلّا اقترحتها على إلهك إن كنت صادقا ، وأنّ الله تعالى يقبل دعاءك ويجيب التماسك وذلك أنّهم كانوا يطلبون منه آيات معينة على سبيل التعنت كقوله : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) [الإسراء : ٩٠]. وعند هذا أمر رسوله أن يجيبهم بالجواب الشافي ، فقال : (قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) أي ليس عليّ أن أقترح على ربي وإنما أنا أنتظر الوحي.
ثمّ بيّن أنّ عدم الإتيان بتلك المعجزات التي اقترحها لا يقدح في الغرض ؛ لأنّ ظهور القرآن على وفق دعواه معجزة قاهرة ، فهي كافية في تصحيح النبوة ، فطلب الزيادة تعنت ؛ فلا جرم قال : قل هذا يعني : القرآن بصائر حجج ، وبيان ، وبرهان لذوي العقول في دلائل التّوحيد ، والنبوة ، والمعاد ، والبصائر : جمع بصيرة ، وأصلها ظهور الشّيء واستحكامه حتى يبصر الإنسان فيهتدي به ، أي : هذه دلائل تقودكم إلى الحقّ ؛ فأطلق على القرآن لفظ البصيرة تسمية للسبب باسم المسبب.
قال أبو حيّان (١) : وأطلق على القرآن بصائر إمّا مبالغة ؛ وإمّا لأنّه سبب البصائر ، وإمّا على حذف مضاف أي : ذو بصائر ثم قال : وهدى والفرق بين هذه المرتبة وما قبلها أنّ النّاس في معارف التوحيد ، والنبوة والمعاد ثلاثة أقسام :
إحداها : الذين بلغوا في هذه المعارف بحيث صاروا كالمشاهدين لها ، وهم أصحاب عين اليقين.
والثاني : الذين بلغوا إلى ذلك الحد إلّا أنهم وصلوا إلى درجات المستدلّين ، وهم أصحاب علم اليقين فالقرآن في حقّ الأولين وهم السّابقون بصائر ، وفي حق القسم الثاني هدى ، وفي حق عامّة المؤمنين رحمة ، ولمّا كانت الفرق الثلاث من المؤمنين قال : «قوم يؤمنون».
قوله تعالى : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ)(٢٠٦)
قوله تعالى : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) الآية.
لمّا عظّم شأن القرآن بقوله : (هذا بَصائِرُ) أردفه بقوله : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ)».
قوله له متعلق ب : استمعوا على معنى لأجله ، والضمير للقرآن ، وقال أبو البقاء :
__________________
(١) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٤٨.