ثم قال : (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) يفوضون إليه أمورهم ، ويثقون به ، ولا يرجون غيره ، فالتّقديم يفيد الاختصاص ، أي : عليه لا على غيره ، وهذه الجملة يحتمل أن يكون لها محلّ من الإعراب ، وهو النّصب على الحال من مفعول : زادتهم ، ويحتمل أن تكون مستأنفة ، ويحتمل أن تكون معطوفة على الصّلة قبلها ، فتدخل في حيّز الصلات المتقدّمة ، وعلى الوجهين فلا محلّ لها من الإعراب.
قوله تعالى : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)(٤)
قوله : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ) ذكر الصّلاة ؛ لأنّها رأس الطاعات الظاهرة ثم بذل المال في مرضاة الله ؛ فيدخل فيه الزكاة والصدقات ، والنّفقة في الجهاد ، وعلى المساجد والقناطر.
قال المعتزلة (١) : أجمعت الأمة على أنّه لا يجوز الإنفاق من الحرام ، فدلّ على أنّ الحرام لا يكون رزقا وقد تقدم البحث فيه. وقوله : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ) يجوز في هذ الموصول أن يكون مرفوعا على النّعت للموصول أو على البدل ، أو على البيان له ، وأن يكون منصوبا على القطع المشعر بالمدح.
قوله : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) يجوز في حقّا أن يكون صفة لمصدر محذوف ، أي : هم المؤمنون إيمانا حقا ، ويجوز أن يكون مؤكدا لمضمون الجملة ، كقولك : هو عبد الله حقا ، والعامل فيه على كلا القولين مقدّر ، أي : أحقّه حقا ، ويجوز وهو ضعيف جدّا أن يكون مؤكّدا لمضمون الجملة الواقعة بعده وهي : لهم درجات ويكون الكلام قد تمّ عند قوله : هم المؤمنون ثم ابتدأ ب «حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ» وهذا إنّما يجوز على رأي ضعيف ، أعني تقديم المصدر المؤكّد لمضمون جملة عليها.
قوله : عند ربّهم يجوز أن يكون متعلقا ب «درجات» ، لأنّها بمعنى أجور ، وأن يتعلّق بمحذوف ؛ لأنّها صفة ل «درجات» أي : استقرّت عند ربهم ، وأن يتعلّق بما تعلّق به لهم من الاستقرار.
فصل
قوله : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) أي : يقينا ، قال ابن عبّاس : برءوا من الكفر (٢) ، قال مقاتل : حقّا لا شكّ في إيمانهم (٣) ، وفيه دليل على أنّه ليس لكل أحد أن يصف نفسه
__________________
(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٥ / ٩٨.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ١٧٩) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٢٩٨) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (٢ / ٢٢٩).
(٣) انظر معالم التنزيل للبغوي (٢ / ٢٢٩).