للمحسوسات ، وهي موضوعة في البطن المؤخر من الدّماغ ، وإليه الإشارة بقوله : «ومن خلفهم».
والقوّة الثّالثة : الشّهوة ، وهي موضوعة في الكبد ، وهي من يمين البدن ، وإليه الإشارة بقوله : (وَعَنْ أَيْمانِهِمْ).
والقوّة الرّابعة : الغضب ، وهي موضوعة في البطن الأيسر من القلب ، وإليه الإشارة بقوله: (وَعَنْ شَمائِلِهِمْ). فهذه القوى الأربع التي تتولّد عنها أحوال توجب زوال السّعادات الرّوحانيّة ، والشّياطين الخارجة ما لم تستعن بشيء من هذه القوى الأربع لم تقدر على إلقاء الوسوسة ، فهذا هو السّبب في تعيين هذه الجهات الأربع.
روي عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «إنّ الشّيطان قعد لابن آدم بطريق الإسلام فقال : اتّبع دين آبائك فعصاه فأسلم ، ثمّ قعد له بطريق الهجرة فقال له : تدع ديارك وتتغرّب! فعصاه وهاجر ، ثمّ قعد له بطريق الجهاد فقال له : تقاتل فتقتل فيقسم مالك وتنكح امرأتك فعصاه فقاتل» (١). فهذا الخبر يدل على أنّ الشّيطان لا يترك جهة من جهات الوسوسة إلّا ويلقيها في القلب.
فإن قيل : فلم [لم] يذكر مع الجهات الأربع «من فوقهم ومن تحتهم؟»
فالجواب أنّا ذكرنا أنّ القوى التي يتولّد منها ما يوجب تفويت السّعادات الرّوحانية فهي موضوعة في هذه الجوانب الأربعة من البدن
وأمّا في الظّاهر فيروى أنّ الشّيطان لمّا قال هذا الكلام رقت قلوب الملائكة على البشر فقالوا : يا إلهنا ، كيف يتخلّص الإنسان من الشيطان مع كونه مستوليا عليه من هذه الجهات الأربع؟ فأوحى الله تعالى إليهم : «أنه بقي للإنسان جهتان : الفوق والتّحت ، فإذا رفع يديه إلى فوق في الدّعاء على سبيل الخضوع ، أو وضع جبهته على الأرض على سبيل الخشوع غفرت له ذنب سبعين سنة» (٢).
قوله تعالى : (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ)(١٧)
الوجدان هنا يحتمل أن يكون بمعنى اللّقاء ، أو بمعنى العلم أي : لا تلفي أكثرهم شاكرين أو لا تعلم أكثرهم شاكرين ف «شاكرين» حال على الأوّل ، مفعول ثان على الثّاني.
__________________
(١) أخرجه أحمد (٣ / ٤٨٣) والنسائي (٦ / ٢١ ـ ٢٢) وابن أبي شيبة (٥ / ٢٩٣) وابن حبان (١٦٠١ ـ موارد) من طريق سالم بن أبي الجعد عن سبرة بن أبي الفاكه مرفوعا.
(٢) ينظر : الرازي ١٤ / ٣٥.