فصل
قال ابن عبّاس «كانت قريش يطوفون بالبيت عراة ، يصفرون ويصفّقون» (١).
وقال مجاهد : «كانوا يعارضون النبي صلىاللهعليهوسلم في الطّواف ويستهزئون به ويصفّرون ، ويصفّقون ، ويخلطون عليه طوافه وصلاته» (٢).
وقال مقاتل : «كان النبي صلىاللهعليهوسلم إذا صلّى في المسجد الحرام ، قام رجلان عن يمينه ، ورجلان عن يساره يصفقون ليخلطوا على النبيّ صلىاللهعليهوسلم صلاته ، وهم من بني عبد الدّار» (٣).
وقال سعيد بن جبير : «التصدية : صدهم المؤمنين عن المسجد الحرام ، وعلى هذا ف «التّصددة» بدالين ، كما يقال : تظننت من الظن» (٤).
فعلى قول ابن عباس كان المكاء والتصدية نوع عبادة لهم ، وعلى قول مجاهد ومقاتل : كان إيذاءا للنبي صلىاللهعليهوسلم. والأول أقرب ، لقوله تعالى : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً).
فإن قيل : «المكاء» و «التّصدية» ليسا من جنس الصّلاة ، فكيف يجوز استثناؤهما من الصّلاة؟ فالجواب : من وجوه ، أحدها : أنهم كانوا يعتقدون أنّ المكاء والتصدية من جنس الصّلاة ، فحسن الاستثناء على حسب معتقدهم.
قال ابن الأنباري : «إنّما سمّاه صلاة ؛ لأنّهم أمروا بالصّلاة في المسجد ؛ فجعلوا ذلك صلاتهم».
وثانيها : أنّ هذا كقولك : زرت الأمير ؛ فجعل جفائي صلتي ، أي : أقام الجفاء مقام الصلة ، كذا ههنا.
وثالثها : الغرض منه أن من كان المكاء والتّصدية صلاته فلا صلاة له ، كقول العرب : ما لفلان عيب إلّا السخاء ، أي : من كان السخاء عيبه فلا عيب فيه.
ثم قال تعالى (فَذُوقُوا الْعَذابَ) أي : عذاب السيف يوم بدر ، وقيل : يقال لهم في الآخرة (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ).
قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها
__________________
(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣٣٢) وعزاه إلى ابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه والضياء عن ابن عباس.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٣٩) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣٣٣) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٣٩) عن مجاهد بمعناه وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (٢ / ٢٤٧.
(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٤٠) وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (٢ / ٢٤٧.