قوله «لم يك» قال أكثر النحاة : إنّما حذفت النون ؛ لأنّها لم تشبه الغنّة المحضة فأشبهت حروف اللين ووقعت طرفا ، فحذفت تشبيها بها ، كما تقول : لم يدع ، ولم يرم.
قال الواحدي ـ رحمهالله تعالى ـ : «وهذا ينتقض بقولهم : لم يزن ، ولم يخن ، ولم يسمع حذف النون ههنا».
وأجاب علي بن عيسى فقال : إنّ «كان» و «يكون» أم الأفعال ، من أجل أن كل فعل قد حصل فيه معنى «كان» ، فقولنا : ضرب ، معناه : كان ضرب ، ويضرب معناه : يكون ضرب ، وهكذا القول في الكلّ ؛ فثبت أنّ هذه الكلمة أم الأفعال ، فاحتيج إلى الاستعمال في أكثر الأوقات ، فاحتملت هذا الحذف ، بخلاف قولنا : لم يخن ، ولم يزن ، فإنّه لا حاجة إلى ذكرها كثيرا ، فظهر الفرق.
فصل
معنى الآية إنّ الله لا يغيّر ما أنعم على قوم ، حتى يغيّروا ما بهم بالكفران وترك الشكر ، فإذا فعلوا ذلك غيّر الله ما بهم ، فسلبهم النعمة.
فصل
قال القاضي (١) «معنى الآية : أنه تعالى أنعم عليهم بالعقل والقدرة وإزالة الموانع ، وتسهيل السبل ، والمقصود : أن يشتغلوا بالعبادة والشّكر ، ويعدلوا عن الكفر ، فإذا صرفوا هذه الأمور إلى الكفر والفسق ، فقد غيّروا نعم الله على أنفسهم فلا جرم استحقوا تبديل النعم بالنقم ، والمنح بالمحن».
قال : «وهذا من أوكد ما يدلّ على أنه تعالى لا يبتدأ أحدا بالعذاب والمضرة ، وأنّ الذي يفعله لا يكون إلّا جزاء على معاص سلفت ، لو كان تعالى خلقهم ، وخلق جسمانهم وعقولهم ابتداء للنّار كما يقوله القوم لما صحّ ذلك».
وأجيب : بأن ظاهر الآية مشعر بما قاله القاضي ؛ إلّا أنّا لو حملنا الآية عليه لزم أن يكون صفة الله تعالى معلّلة بفعل الإنسان ؛ لأنّ حكم الله بذلك التغيير وإرادته ، لمّا كان لا يحصل إلّا عند إتيان الإنسان بذلك الفعل ، فلو لم يصدر عنه ذلك الفعل لم يحصل لله تعالى ذلك الحكم وتلك الإرادة ، فحينئذ يكون فعل الإنسان مؤثرا في حدوث صفة في ذات الله تعالى ، ويكون الإنسان مغيرا صفة الله ومؤثرا فيها ، وذلك محال في بديهة العقل ؛ فثبت أنه لا يمكن حمل هذا الكلام على ظاهره ، بل الحقّ أنّ صفة الله غالبة على صفات المحدثات ، فلو لا حكمه وقضاؤه أولا لما أمكن للعبد أن يأتي بشيء من الأفعال والأقوال.
ثم قال : (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي : سميع لأقوالهم ، عليم بأفعالهم.
__________________
(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٥ / ١٤٤.