فالجواب : أنّ التّأييد ليس إلّا من الله ، لكنه على قسمين :
أحدهما : ما يحصل من غير واسطة أسباب معتادة.
والثاني : ما يحصل بواسطة أسباب معتادة.
فالأول : هو المراد بقوله : «أيّدك بنصره».
والثاني : هو المراد بقوله : «وبالمؤمنين».
ثم بيّن كيف أيد بالمؤمنين ، فقال (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) أي : بين الأوس والخزرج ، كانت بينهم إحن وخصومات ، ومحاربة في الجاهليّة ، فصيّرهم الله إخوانا بعد أن كانوا أعداء ، وتبدلت العداوة بالمحبة القوية ، والمخالصة التّامة ، ممّا لا يقدر عليه إلّا الله تعالى.
(لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي : قادر قاهر ، يمكنه التصرف في القلوب ، ويقلبها من العداوة إلى الصداقة ومن النفرة إلى الرغبة ، حكيم يقول ما يقوله على وجه الإحكام والإتقان ، أو مطابقا للمصلحة والصّواب على اختلاف القولين في الجبر والقدر.
فصل
احتجوا بهذه الآية على أن أحوال القلوب من العقائد ، والإرادات كلها من خلق الله تعالى ؛ لأن تلك الألفة ، والمودة ، إنّما حصلت بسبب الإيمان ومتابعة الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فلو كان الإيمان فعلا للعبد لا فعلا لله تعالى ، لكانت المحبّة المترتبة عليه فعلا للعبد لا فعلا لله تعالى ، وذلك خلاف صريح الآية.
قال القاضي : «لو لا ألطاف الله تعالى ساعة فساعة ، لما حصلت هذه الأحوال ، فأضيفت تلك المخالصة إلى الله تعالى بهذا التّأويل ، كما يضاف علم الولد وأدبه إلى أبيه ، لأجل أنّه لم يحصل ذلك إلّا بمعونة الأب وتربيته ، فكذا ههنا».
وأجيب : بأن كل ما ذكرتموه عدول عن الظاهر ، وحمل الكلام على المجاز ، وأيضا فكل هذه الألطاف كانت حاصلة في حق الكفار ، مثل حصولها في حقّ المؤمنين ، فلو لم يحصل هناك شيء سوى الألطاف ؛ لم يكن لتخصيص المؤمنين بهذه المعاني فائدة ، وأيضا فالبرهان العقلي مقوّ لهذا الظّاهر ؛ لأن القلب يصح أن يصير موصوفا بالرّغبة بدلا عن النّفرة والعكس.
فرجحان أحد الطّرفين على الآخر لا بدّ له من مرجّح ، فإن كان المرجح هو العبد عاد التقسيم وإن كان هو الله تعالى ، فهو المقصود.
فعلم أنّ صريح هذه الآية متأكد بصريح البرهان العقلي ، فلا حاجة إلى ما ذكره القاضي.