والإنزال يقتضي الانتقال من حال إلى حال ، وذلك لا يليق بالقديم فدل على أنّه محدث.
والجواب أن الموصوف بالإنزال والتنزيل على سبيل المجاز [هو] هذه الحروف ولا نزاع في كونها محدثة مخلوقة (١).
فإن قيل : هب أنّ المراد منه الحروف إلّا أنّه الحروف أعراض غير باقية بدليل أنّها متوالية وكونها متوالية يشعر بعدم بقائها ، وإذا كان كذلك فالعرض الذي لا يبقى زمانين كيف يعقل وصفه بالنزول؟
فالجواب : أنّه سبحانه وتعالى أحدث هذه الرّقوم والنّقوش في اللّوح [المحفوظ] ، ثم إنّ الملك يطالع تلك النّقوش ، وينزّل من السّماء إلى الأرض ويعلّم محمدا ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ تلك الحروف والكلمات ، فكان المراد بكون تلك الحروف نازلة هو : أنّ مبلغها نزل من السّماء إلى الأرض.
فصل في تأويل المكانية
الّذين أثبتوا لله مكانا تمسّكوا بهذه الآية فقالوا : إنّ كلمة «من» لابتداء الغاية ، وكلمة «إلى» لانتهاء الغاية ، فقوله : (أُنْزِلَ إِلَيْكَ) يقتضي حصول مسافة مبدؤها هو الله ـ تبارك وتعالى ـ وغايتها هو محمّد ـ عليه أفضل الصلاة والسلام ـ ، وذلك يدلّ على أنّه تبارك وتعالى مختص بجهة فوق ؛ لأن النّزول هو الانتقال من فوق إلى أسفل.
والجواب : لمّا ثبت بالدّلائل القاطعة أن المكان والجهة على الله سبحانه وتعالى محال وجب حمله على التّأويل وهو أنّ الملك انتقل من العلو إلى أسفل.
قوله تعالى : (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) (٢)
قال مجاهد : «شكّ (٢) ، والخطاب للرّسول صلىاللهعليهوسلم والمراد به الأمة ، ويسمّى الشكّ حرجا ؛ لأن الشّاكّ ضيّق الصّدر كما أن المتيقن منشرح (٣) القلب».
وقال أبو العالية رحمة الله عليه : حرج : ضيق (٤) ، والمعنى : لا يضيق صدرك بسبب أن يكذبوك في التّبليغ.
قال الكيا : فظاهره النّهي ومعناه : نفي الحرج عنه صلىاللهعليهوسلم أي : لا يضيق صدرك ألّا
__________________
(١) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١٤.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٤٢٥) عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي.
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٢٦) عن ابن عباس وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(٣) في الرازي متقح.
(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٢٦) وعزاه لأبي الشيخ عن الضحاك.