فصل في دحض شبهة خلق الأفعال
احتجّ أهل السّنّة بهذه الآية على أنّ الهدى والضلال من الله تعالى.
قالت المعتزلة (١) : «المراد فريقا هدى إلى الجنّة والثّواب ، وفريقا حقّ عليهم الضّلال أي : العذاب والصّرف عن طريق الثّواب».
قال القاضي (٢) : لأنّ هذا هو الذي يحقّ عليهم دون غيرهم ، إذا العبد لا يستحق أن يضلّ عن الدّين ، إذ لو استحقّ ذلك لجاز أن يأمر أولياءه بإضلالهم عن الدّين كما أمرهم بإقامة الحدود المستحقة ، وفي ذلك زوال الثّقة بالنّبوّات. وهذا الجواب ضعيف من وجهين :
الأول : أن قوله «فريقا هدى» إشارة إلى الماضي ، وعلى التّأويل الذي ذكروه يصير المعنى : أنّه تعالى سيهديهم في المستقبل ، ولو قال : إنّ المراد : أنّه تعالى حكم في الماضي أنّه سيهديهم إلى الجنّة كان هذا عدولا عن الظّاهر من غير حاجة ؛ لأنّه قد تبين بالدّليل القاطع أن الهدى والضلال ليسا إلا من الله تعالى.
والثاني : هب أن المراد من الهداية والضّلال حكم الله بذلك ، إلا أنّه لما حصل هذا الحكم امتنع من العبد صدور غيره ، والإلزام انقلاب ذلك الحكم كذبا ، والكذب على الله محال ، والمفضي إلى المحال محال ، فكان صدور خلاف ذلك من العبد محالا.
قوله : (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ).
قال ابن عبّاس : يريد ما سنّ لهم عمرو بن لحيّ ، وهذا بعيد بل هو محمول على عمومه ، فكلّ من شرع في باطل فهو مستحقّ للذم ، سواء حسب كونه هدى ، أو لم يحسب ذلك ، وهذه الآية تدل على أنّ الكافر الذي يظن أنّه في دينه على الحقّ والجاحد المعاند سواء ، وتدلّ أيضا على أنّ مجرّد الظن والحسبان لا يكفي في صحّة الدين ، بل لا بدّ فيه من الجزم والقطع ؛ لأنّه تعالى ذم الكفار بأنهم يحسبون كونهم مهتدين ، ولو لا أن هذا الحسبان مذموم وإلّا لما ذمهم بذلك.
قوله تعالى : (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)(٣١)
لمّا أمرنا بإقامة الصّلاة بقوله : (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ).
وكان ستر العورة شرطا لصحّة الصّلاة أتبعه بذكر اللّباس.
قال ابن عبّاس : إنّ أهل الجاهليّة من قبائل العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة ، وكانوا إذا وصلوا إلى مسجد «منى» طرحوا ثيابهم ، وأتوا المسجد عراة ، وقالوا : لا
__________________
(١) ينظر : الفخر الرازي ١٤ / ٤٩.
(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٤٩.