الثاني : أن «الذي» صفة لمفرد مفهم للجمع ، أي : وخضتم خوضا كخوض الفوج الذي خاضوا ، أو الفريق الذي خاضوا والكلام في العائد كما سبق قبل.
قال بعض المفسرين : «الذي» اسم ناقص مثل «ما ، ومن» يعبر به عن الواحد والجمع ، كقوله تعالى : (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) ثم قال (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) [البقرة : ١٧].
الثالث : أن «الذي» من صفة المصدر ، والتقدير : وخضتم خوضا كالخوض الذي خاضوه وعلى هذا فالعائد منصوب من غير واسطة حرف جر. وهذا الوجه ينبغي أن يكون هو الراجح ، إذ لا محذور فيه.
والرابع : أن «الذي» تقع مصدرية ، والتقدير : وخضتم خوضا. ومثله : [البسيط]
٢٨١٢ ـ فثبت الله ما آتاك من حسب |
|
في المرسلين ونصرا كالذي نصروا (١) |
أي : كنصرهم. وقول الآخر : [البسيط]
٢٨١٣ ـ يا أم عمرو جزاك الله مغفرة |
|
ردي علي فؤادي كالذي كانا (٢) |
أي : ككونه. وقد تقدم أن هذا مذهب الفراء ، ويونس ، وقد تقدم تأويل البصريين لذلك قال الزمخشري (٣) «فإن قلت : أي فائدة في قوله : (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ ،) وقوله (كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ) مغن عنه ، كما أغنى (كَالَّذِي خاضُوا)؟ قلت : فائدته أن يذم الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا ، ورضاهم بها عن النظر في العاقبة ، وطلب الفلاح في الآخرة ، وأن يخسس أمر الاستمتاع ويهجن أمر الراضي به ، ثم شبه حال المخاطبين بحالهم ، وأما (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) فمعطوف على ما قبله ومسند إليه ، مستغن بإسناداه إليه عن تلك المقدمة يعني : أنه استغنى عن أن يكون التركيب : وخاضوا ، فخضتم كالذي خاضوا». وفي قوله (كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ) إيقاع للظاهر موقع المضمر ، لنكتة ، وهو أنه كان الأصل : فاستمتعم بخلاقكم كما استمتعوا بخلاقهم ؛ فأبرزهم بصورة الظاهر تحقيرا لهم ، كقوله : (لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا) [مريم : ٤٤] ، وكقوله قبل ذلك : (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ،) ثم قال : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) [التوبة: ٦٧] وهذا كما يدل بإيقاع الظاهر موقع المضمر على التفخيم والتعظيم ، يدل به على عكسه ، وهو التحقير.
فصل
معنى الآية : إنكم فعلتم كفعل الذين من قبلكم ، بالعدول عن أمر الله والأمر بالمنكر ، والنهي عن المعروف ، وقبض الأيدي عن الخيرات ، و (كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً)
__________________
(١) تقدم.
(٢) البيت لجرير : ينظر : الديوان ٥٩٤ ، والمحتسب ٢ / ١٨٩ ، والدر المصون ٣ / ٤٨٣.
(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٨٨.