ثم قال تعالى : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) فقوله (مِنْ سَبِيلٍ) فاعل بالجار قبله لاعتماده على النّفي ، ويجوز أن يكون مبتدأ ، والجار قبله خبره. وعلى كلا القولين ف «من» مزيدة فيه ، أي : ما على المحسنين سبيل. والمعنى : أنّه لا إثم عليه بسبب القعود عن الجهاد.
(وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ). قال قتادة : نزلت في عائذ بن عمرو وأصحابه (١). وقال الضحاك نزلت هذه الآية في عبد الله ابن أم مكتوم ، وكان ضريرا (٢).
فصل
قال بعضهم : في هذه الآية نوع من البديع ، يسمّى التلميح ، وهو أن يشار إلى قصة مشهورة ، أو مثل سائر ، أو شعر نادر ، في فحوى كلامك من غير ذكره ؛ ومنه قوله : [البسيط]
٢٨٢٩ ـ اليوم خمر ويبدو في غد خبر |
|
والدّهر من بين إنعام وإبآس (٣) |
يشير إلى قول امرىء القيس لمّا بلغه قتل أبيه : «اليوم خمر ، وغدا أمر».
وقول الآخر : [الطويل]
٢٨٣٠ ـ فو الله ما أدري أأحلام نائم |
|
ألمّت بنا أم كان في الرّكب يوشع؟ (٤) |
يشير إلى قصّة يوشع عليه الصلاة والسّلام ، واستيقافه الشّمس.
وقول الآخر : [الطويل]
٢٨٣١ ـ لعمرو مع الرّمضاء والنّار تلتظي |
|
أرقّ وأحفى منك في ساعة الكرب (٥) |
أشار إلى البيت المشهور : [البسيط]
٢٨٣٢ ـ المستجير بعمرو عند كربته |
|
كالمستجير من الرّمضاء بالنّار (٦) |
فكأنه قوله : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) اشتهر ما هو بمعناه بين النّاس ؛ فأشار إليه من غير ذكر لفظه. ولمّا ذكر أبو حيان التلميح لم يقيّده بقوله : «من غير ذكره». ولا بدّ منه لأنّه إذا ذكره بلفظه كان اقتباسا وتضمينا.
__________________
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٤٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٤٧٨) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣١٩).
(٣) البيت لبشار بن برد ينظر : ديوانه (٤ / ١٠٠) ، البحر ٥ / ٨٨ ، معاهد التنصيص ٤ / ٢٠٤ ، الدر المصون ٣ / ٤٩١.
(٤) البيت لأبي تمام : ينظر : ديوانه (٣٨٧) العمدة (٢ / ٨٨) ، معاهد التنصيص ٤ / ٢٠١ ، الدر المصون ٣ / ٤٩١.
(٥) البيت لأبي تمام ينظر : ديوانه (٣٨٧) العمدة ٢ / ٨٨ ، معاهد التنصيص ٤ / ٢٠١ ، الدر المصون ٣ / ٤٩١.
(٦) ينظر البيت في : عمدة ابن رشيق (٢ / ٨٨) معاهد التنصيص ٤ / ٢٠١ ، ٢٠٢ ، شرح شواهد الشافية (١١١) ، اللسان : دعص.