فصل
اختلفوا في قوله : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) هل يفيد العموم؟ فقال بعضهم : لا ؛ لأنّ اللفظ مقصور على أقوام معيّنين نزلت الآية فيهم. وقال آخرون : بلى ؛ لأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السّبب ، والمحسن هو الآتي بالإحسان ، ورأس الإحسان لا إله إلّا الله ، فكلّ من قالها واعتقدها ، كان من المسلمين ، فاقتضت نفي جميع المسلمين ؛ فدلّ هذا اللفظ بعمومه على أنّ الأصل حرمة القتل ، وحرمة أخذ المال وأن لا يتوجه عليه شيء من التّكاليف ، إلّا بدليل منفصل ، فصارت هذه الآية بهذا الطريق أصلا معتبرا في الشريعة ، في تقرير أنّ الأصل براءة الذّمة ، إلى أن يرد نص خاص.
قوله : (وَلا عَلَى الَّذِينَ). فيه أوجه :
أحدها : أن يكون معطوفا على «الضّعفاء» ، أي : ليس على الضعفاء ، ولا على الذين إذا ما أتوك ، فيكونون داخلين في خبر «ليس» مخبرا بمتعلقهم عن اسمها ، وهو «حرج».
الثاني : أن يكون معطوفا على «المحسنين» فيكونون داخلين فيما أخبر به من قوله : (مِنْ سَبِيلٍ) ، فإنّ (مِنْ سَبِيلٍ) يحتمل أن يكون مبتدأ ، وأن يكون اسم «ما» الحجازية ، و «من» مزيدة في الوجهين.
الثالث : أن يكون (وَلا عَلَى الَّذِينَ) خبرا لمبتدأ محذوف ، تقديره : ولا على الذين إذا ما أتوك .. إلى آخر الصلة ، حرج ، أو سبيل وحذف لدلالة الكلام عليه ، قاله أبو البقاء. ولا حاجة إليه ، لأنّه تقدير مستغنى عنه إذ قدّر شيئا يقوم مقامه هذا الموجود في اللفظ والمعنى. وهذا الموصول ، أعني قوله : (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ ،) يحتمل أن يكون مندرجا في قوله : (وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ) وذكروا على سبيل نفي الحرج عنهم ، وألا يكونوا مندرجين ، بل أن يكون هؤلاء وجدوا ما ينفقون ، إلّا أنّهم لم يجدوا مركوبا. وقرأ معقل (١) بن هارون «لنحملهم» بنون العظمة ، وفيها إشكال ، إذ كان مقتضى التركيب : قلت : لا أجد ما يحملكم عليه الله.
قوله : «قلت» فيه أربعة أوجه ، أحدها : أنّه جواب «إذا» الشّرطيّة ، و «إذا» وجوابها في موضع الصّلة ، وقعت الصّلة جملة شرطية ، وعلى هذا ؛ فيكون قوله : «تولّوا» جوابا لسؤال مقدر كأنّ قائلا قال : ما كان حالهم إذا أجيبوا بهذا الجواب؟ فأجيب بقوله : «تولّوا».
الثاني : أنّه في موضع نصب على الحال ، من «أتوك» ، أي : إذا أتوك ، وأنت قائل : لا أجد ما أحملكم عليه ، و «قد» مقدرة ، عند من يشترط ذلك في الماضي الواقع حالا ،
__________________
(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٨٨ ، الدر المصون ٣ / ٤٩٢.