كالعلل للموجودات المحسوسة ، وعندهم أنّ العلم بالعلّة علة للعلم بالمعلول ؛ فوجب كون العلم بالغيب سابقا على العلم بالشّهادة ؛ فلهذا السّبب أينما جاء الكلام في القرآن كان الغيب مقدما على الشهادة.
فصل
إن حملنا قوله تعالى : (فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ) على الرّؤية ، ظهر أنّ معناه مغايرا لمعنى قوله : (وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ،) وإن حملنا تلك الرّؤية على العلم أو على إيصال الثواب ، كان قوله (وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) جاريا مجرى التفسير لقوله (فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ) ومعناه : بإظهار المدح والثناء والإعزاز في الدّنيا أو بإظهار أضدادها. وقوله : (وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي : ما يظهر في القيامة من حال الثّواب والعقاب.
(فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي : يعرّفكم أحوال أعمالكم ثمّ يجازيكم عليها ؛ لأنّ المجازاة من الله تعالى لا تحصل في الآخرة إلّا بعد التّعريف ، ليعرف كلّ أحد أن الذي وصل إليه عدل لا ظلم.
قوله تعالى : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ) الآية.
قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو (١) ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم «مرجؤون» بهمزة مضمومة بعدها «واو» ساكنة. والباقون «مرجون» دون همز ، وهذا كقراءتهم (٢) في الأحزاب «ترجىء» [الأحزاب : ٥١] بالهمز ، والباقون بدونه.
وهما لغتان ، يقال : أرجأته ، وأرجيته ، ك : أعطيته. ويحتمل أن يكونا أصلين بنفسهما وأن تكون الياء بدلا من الهمزة ؛ ولأنه قد عهد تحقيقها كثيرا ، ك : قرأت ، وقريت ، وتوضّأت وتوضّيت. والإرجاء : التأخير. وسميت المرجئة بهذا الاسم ؛ لأنّهم لا يجزمون القول بمغفرة التّائب ولكن يؤخرونها إلى مشيئة الله. وقال الأوزاعي : لأنهم يؤخرون العمل عن الإيمان.
قوله : (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ) يجوز أن تكون هذه الجملة في محل رفع خبرا للمبتدأ ، و «مرجون» يكون على هذا نعتا للمبتدأ ، ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر ، وأن يكون في محلّ نصب على الحال ، أي : هم مؤخّرون إمّا معذّبين ، وإمّا متوبا عليهم ، و «إمّا» هنا للشّك بالنسبة للمخاطب ، فناس يقولون : هلكوا إذ لم يقبل الله لهم عذرا ، وآخرون يقولون : عسى الله أن يغفر لهم. وإمّا للإبهام بالنّسبة إلى أنّه أبهم على المخاطبين.
__________________
(١) ينظر : حجة القراءات ص (٣٢٣) ، إعراب القراءات ١ / ٢٥٥ ، إتحاف ٢ / ٩٧ ـ ٩٨ ، الكشاف ٢ / ٣٠٨ ، المحرر الوجيز ٣ / ٨٠ ، البحر المحيط ٥ / ١٠١ ، الدر المصون ٣ / ٥٠١.
(٢) ستأتي في سورة الأحزاب آية (٥١).