فصل
اعلم أنّه تعالى قسّم المتخلفين ثلاثة أقسام :
أحدها : المنافقون الذين مردوا على النفاق.
والثاني : التّائبون وهم المرادون بقوله : «وآخرون اعترفوا» وبيّن تعالى أنّه قبل توبتهم.
والثالث : الذين بقوا موقوفين ، وهم المذكورون في هذه الآية ، والفرق بين هؤلاء وبين القسم الثاني ، أنّ هؤلاء لم يسارعوا إلى التّوبة وأولئك سارعوا إليها. قال ابن عبّاس : نزلت هذه الآية في الذين تخلّفوا : كعب بن مالك ، ومرارة بن الربيع ، وهلال بن أميّة ، لم يسارعوا إلى التوبة والاعتذار كما فعل أبو لبابة ، فوقفهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم خمسين ليلة ، ونهى النّاس عن مخالطتهم ، حتّى شفّهم القلق ، وضاقت عليهم الارض بما رحبت وكانوا من أهل بدر ؛ فجعل أناس يقولون : هلكوا ، وآخرون يقولون : عسى الله أن يغفر لهم ، فصاروا مرجئين لأمر الله ، إمّا يعذبهم وإمّا يرحمهم ، حتى نزلت توبتهم بعد خمسين ليلة (١). (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) «عليم» بما في قلوب هؤلاء المرجئين «حكيم» بما يحكم فيها.
فإن قيل : إنّهم ندموا على تأخرهم عن الغزو ، وتخلفهم عن الرسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ ، ثمّ إنّه لم يحكم بكونهم تائبين ، بل قال : (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) وذلك يدلّ على أنّ النّدم وحده لا يكفي في صحّة التوبة.
فالجواب : لعلّهم حين ندموا خافوا أن يفضحهم الرّسول ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ ، وعلى هذا ، فلا تكون توبتهم صحيحة ، فاستمرّ عدم قبول التوبة إلى أن نزل مدحهم ؛ فعند ذلك ندموا على المعصية لنفس كونها معصية ، فحينئذ صحّت توبتهم.
فصل
احتجّ الجبائيّ بهذه الآية على أنّه تعالى لا يعفو عن غير التّائب ؛ لأنّه قال في حقّ هؤلاء المذنبين (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) وذلك يدلّ على أنّه لا حكم إلّا أحد هذين الأمرين ، وهو إمّا التعذيب وإما التوبة ، وأمّا العفو عن الذّنب من غير توبة ؛ فهو قسم ثالث. فلمّا أهمل الله تعالى ذكره ، دلّ على بطلانه.
وأجيب : بأنّا لا نقطع بحصول العفو عن جميع المذنبين ، بل نقطع بحصول العفو في الجملة وأمّا في حقّ كل واحد ؛ فذلك مشكوك فيه ، قال تعالى : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨] فقطع بغفران ما سوى الشرك ، لكن لا في حقّ كل أحد ، بل في حقّ من يشاء ؛ فلم يلزم من عدم العفو في حق هؤلاء ، عدم العفو على الإطلاق ، وأيضا
__________________
(١) تقدم.