فعدم الذّكر لا يدلّ على العدم ، ألا ترى قوله تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) [عبس : ٣٨ ، ٣٩] وهم المؤمنون (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) [عبس : ٤٠ ـ ٤٢] فذكر المؤمنين والكافرين ، ثم إنّ عدم ذكر القسم الثّالث ، لم يدل عند الجبّائيّ على نفيه ؛ فكذا ههنا.
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(١١٠)
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً) الآية.
قرأ نافع (١) ، وابن عامر «الذين اتخذوا» بغير «واو». والباقون بواو العطف. فأمّا قراءة نافع وابن عامر فلموافقة مصاحفهم ، فإنّ مصاحف المدينة والشّام حذفت منها الواو ، وهي ثابتة في مصاحف غيرهم. فمن أسقط الواو ففيه أوجه :
أحدها : أنّها بدل من «آخرون» قبلها ، وفيه نظر ؛ لأنّ هؤلاء الذين اتّخذوا مسجدا ضرارا ، لا يقال في حقّهم : إنّهم مرجون لأمر الله ؛ لأنّه روي في التفسير أنّهم من كبار المنافقين ، ك : أبي عامر الرّاهب.
الثاني : أنّه مبتدأ ، وفي خبره حينئذ أقوال ، أحدها : أنّه «أفمن أسّس بنيانه» والعائد محذوف تقديره : بنيانه منهم.
الثاني : أنّه (لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ) قاله النّحاس والحوفيّ وفيه بعد لطول الفصل.
الثالث : أنه (لا تَقُمْ فِيهِ) قاله الكسائيّ. قال ابن عطيّة : «ويتجه بإضمار ، إمّا في أول الآية ، وإمّا في آخرها ، بتقدير : لا تقم في مسجدهم».
الرابع : أنّ الخبر محذوف ، تقديره : يعذبون ، ونحوه ، قاله المهدويّ.
الوجه الثالث : أنّه منصوب على الاختصاص ، وسيأتي هذا الوجه أيضا في قراءة الواو.
وأما قراءة الواو ففيها ما تقدّم ، إلّا أنّه يمتنع وجه البدل من «آخرون» ؛ لأجل العاطف.
__________________
(١) ينظر : حجة القراءات ص (٣٢٣) ، إتحاف ٢ / ٩٨ ، الكشاف ٢ / ٣٠٩ ، المحرر الوجيز ٣ / ٨٠ ، البحر المحيط ٥ / ١٠٢ ، الدر المصون ٣ / ٥٠٢.