أم لا؟ فمن منع ؛ لأنه كباب المبتدأ والخبر الصريح متى كان كذلك ؛ امتنع تقديمه على المبتدأ ، لئلّا يلتبس بباب الفاعل ؛ فكذلك بعد نسخه ، ومن أجاز فلأمن اللّبس. ثم قال أبو حيّان : «ويخلّص من هذه الإشكالات اعتقاد كون «كاد» زائدة ، ومعناها مراد ، ولا عمل لها إذ ذاك في اسم ولا خبر ، فتكون مثل «كان» إذا زيدت ، يراد معناها ولا عمل لها ، ويؤيّد هذا التأويل قراءة ابن (١) مسعود «من بعد ما زاغت» بإسقاط «كاد» وقد ذهب الكوفيون إلى زيادتها في قوله تعالى : (لَمْ يَكَدْ يَراها) [النور : ٤] مع تأثّرها بالعامل وعملها فيما بعدها ؛ فأحرى أن يدّعى زيادتها ، وهي ليست عاملة ولا معمولة» قال شهاب الدّين زيادتها أباه الجمهور ، وقال به من البصريين الأخفش وجعل منه (أَكادُ أُخْفِيها) [طه : ١٥] وتقدّم الكلام [البقرة : ٢٠٥] على ذلك. وقرأ الأعمش (٢) ، والجحدريّ «تزيغ» بضم التاء ، وكأنّه جعل «أزاغ» ، و «زاغ» بمعنى. وقرأ أبيّ (٣) «كادت» بتاء التأنيث.
فصل
«كاد» عند بعضهم تفيد المقاربة ، وعند آخرين تفيد المقاربة مع عدم الوقوع و «الزيغ» الميل ، أي : من بعد ما كاد تميل قلوب فريق منهم ، أو بعضهم ، ولم يرد الميل عن الدّين بل أراد الميل للتخلف ، والانصراف ؛ فهذه التوبة توبة عن تلك المقاربة.
واختلفوا في الذي وقع في قلوبهم ، فقيل : همّ بعضهم عند تلك الشدّة العظيمة أن يفارق الرسول ، لكنه صبر واحتسب ؛ فلذلك قال تعالى : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) لمّا صبروا وندموا على ذلك الأمر اليسير. وقال آخرون : بل كان ذلك تحدث النفس الذي كان مقدمة العزيمة ، فلمّا نالتهم الشّدة ، وقع ذلك في قلوبهم ، ومع ذلك تلافوا هذا اليسير خوفا من أن يكون معصية ؛ فلذلك قال تعالى : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ).
فإن قيل : ذكر التوبة في أوّل الآية ، وفي آخرها ، فما فائدة التّكرار؟.
فالجواب من وجوه :
أحدها : أنّه تعالى ابتدأ بذكر التّوبة قبل ذكر الذّنب تطيبا لقلوبهم ثم لمّا ذكر الذّنب أردفه مرة أخرى بذكر التوبة ؛ تعظيما لشأنهم.
وثانيها : إذا قيل : عفا السّلطان عن فلان ثمّ عفا عنه ، دلّ على أنّ ذلك العفو متأكد بلغ الغاية القصوى في الكمال والقوّة ، قال عليه الصلاة والسّلام : «إنّ الله ليغفر ذنب الرّجل المسلم عشرين مرّة» (٤) وهذا معنى قول ابن عبّاس في قوله : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ)
__________________
(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٣١٨ ، المحرر الوجيز ٣ / ٧٩٣ البحر المحيط ٥ / ١١٢ ، الدر المصون ٣ / ٥١٠.
(٢) ينظر : السابق.
(٣) ينظر : السابق.
(٤) تقدم.