وقال ابن جريج : مع المهاجرين ، لقوله تعالى : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ) إلى قوله (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)(١) [الحشر : ٨].
وقال ابن عباس : مع الذين صدقت نياتهم ؛ فاستقامت قلوبهم وأعمالهم ، وخرجوا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى تبوك بإخلاص ونيّة (٢). وقيل : من الذين صدقوا في الاعتراف بالذّنب ، ولم يعتذروا بالأعذار الكاذبة.
فصل
دلّت الآية على فضيلة الصّدق ، وكمال درجته. قال ابن مسعود : إنّ الكذب لا يصلح في جدّ ولا هزل ، ولا أن يعد أحدكم صبيّه شيئا ثم لا ينجز له ، اقرءوا إن شئتم (٣) ، وقرأ الآية.
وروي أنّ رجلا جاء إلى النبي صلىاللهعليهوسلم وقال : إنّي أريد أن أومن بك إلّا أنّي أحبّ الزّنا ، والخمر ، والسرقة ، والكذب ، والناس يقولون : إنك تحرم هذه الأشياء ، ولا طاقة لي على تركها بأسرها ، فإن قنعت منّي بترك واحد منها آمنت بك ، فقال عليه الصّلاة والسّلام «اترك الكذب» ؛ فقبل ذلك ثمّ أسلم ، فلمّا خرج من عند النبي صلىاللهعليهوسلم عرضوا عليه الخمر ، فقال : إن شربت الخمر فسألني رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن شربها ، وكذبت فقد نقضت العهد ، وإن صدقت أقام الحدّ عليّ ، فتركها ، ثمّ عرضوا عليه الزّنا ؛ فجاء ذلك الخاطر ، فتركه ، وكذا في السرقة ، فعاد إلى رسول اللهصلىاللهعليهوسلم وقال : ما أحسن ما قلت ، لمّا منعتني من الكذب انسدت أبواب المعاصي عليّ ، وتاب عن الكلّ (٤) وقال ابن مسعود : «عليكم بالصّدق فإنّه يقرب إلى البرّ ، والبرّ يقرب إلى الجنّة ، وإنّ العبد ليصدق ؛ فيكتب عند الله صدّيقا ، وإياكم والكذب ، فإنّ الكذب يقرب إلى الفجور ، والفجور يقرّب إلى النار ، وإن الرّجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذّابا ، ألا ترى أنه يقال : صدقت ، وبررت ، وكذبت ، وفجرت» (٥).
وقيل في قول إبليس : (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [ص : ٨٢ ، ٨٣] إن إبليس لو لم يذكر هذا الاستثناء لصار كاذبا في ادعاء إغواء الكلّ ، فكأنه استنكف عن الكذب ؛ فذكر هذا الاستثناء ، وإذا كان الكذب شيئا يستنكف منه إبليس ، فالمسلم أولى أن يستنكف منه ومن فضائل الصّدق أنّ الإيمان منه لا من سائر الطّاعات ، ومن معايب الكذب أنّ الكفر منه لا من سائر الذنوب.
__________________
(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٣٧).
(٢) انظر المصدر السابق.
(٣) انظر المصدر السابق.
(٤) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٦ / ١٧٦).
(٥) أخرجه البخاري ١٠ / ٥٢٣ كتاب الأدب ، باب قوله تعالى : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ ....» (٦٠٩٤) ومسلم ٤ / ٢٠١٢ كتاب البر والصلة باب قبح الكذب (١٠٣ ـ ٢٦٠٧).