الخلق وهي مما يعسر تحملها ، إلّا لمن خصّه الله بالتوفيق ، ختم هذه السورة بما يوجب سهولة تحمل تلك التكاليف ، وهو أنّ هذا الرسول منكم ؛ فكلّ ما يحصل له من العزّ والشّرف ، فهو عائد إليكم فهو كالطبيب المشفق ، والأب الرحيم في حقكم ، وإن كان كذلك صارت تلك التكاليف ، وتلك التأديبات جارية مجرى الإحسان.
قوله (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) صفة ل «رسول» أي : من صميم العرب. قال ابن عباس : ليس من العرب قبيلة إلّا وقد ولدت النبي صلىاللهعليهوسلم وله فيهم نسب. وقد قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «ما ولدني من سفاح أهل الجاهليّة شيء ، ما ولدني إلّا نكاح كنكاح الإسلام» (١).
وقرأ ابن عبّاس ، وأبو العالية (٢) ، والضحاك ، وابن محيصن ، ومحبوب عن أبي عمرو ، والزهري ، وعبد الله بن قسيط المكي ، ويعقوب من بعض طرقه ، وهي قراءة رسول اللهصلىاللهعليهوسلم وفاطمة ، وعائشة بفتح الفاء ، أي : من أشرفكم ، من النّفاسة.
فصل
اعلم أنه تعالى وصف الرسول في هذه الآية بخمس صفات ، أولها : قوله : (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) وفيه وجوه : أحدها : ما تقدم عن ابن عباس ، والمراد منه : ترغيب العرب في نصرته والقيام بخدمته ، أي : كلّ ما يحصل له من الدولة والرفع في الدنيا ، فهو سبب لعزكم ، فإنه منكم ، ومن نسبكم. وثانيا : يريد أنه بشر مثلكم ، كقوله (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ) [يونس : ٢] وقوله : (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) [الكهف : ١١٠] والمعنى : أنه لو كان من جنس الملائكة لصعب الأمر بسببه على النّاس ، كما قرر في الأنعام.
وثالثها : أنّ هذا خطاب لأهل الحرم ؛ لأن العرب كانوا يسمون أهل الحرم أهل الله وخاصته ، وكانوا يخدمونهم ، فكأنه قيل للعرب : كنتم قبل مقدمه مجتهدين في خدمة أسلافه ، فلم تتكاسلوا عن خدمته مع أنّه أعلى في الشّرف من أسلافه.
والصفة الثانية : قوله «عزيز». فيه أوجه :
أحدها : أنّه صفة ل «رسول» ، وفيه أنه تقدّم غير الوصف الصّريح على الوصف الصّريح.
وقد يجاب بأنّ (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) متعلق ب «جاء» و «ما» يجوز أن تكون مصدرية ، أو بمعنى «الذي».
__________________
(١) أخرجه البيهقي (٧ / ١٩٠) والطبراني (١٠ / ٣٩٩) وابن عساكر (١ / ٣٤٦) والبغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٤١) من طريق المديني عن أبي الحويرث عن ابن عباس.
وذكره الهيثمي في «المجمع» (٨ / ٢١٧) وقال : لم أعرف المديني ولا شيخه وبقية رجاله وثقوا.
(٢) ينظر : إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١٠١ ، الكشاف ٢ / ٣٢٥ ، المحرر الوجيز ٣ / ١٠٠ ، البحر المحيط ٥ / ١٢١ ، الدر المصون ٣ / ٥١٤.