الأول : أنّه العدل ، كما تقدم ؛ والعدل هو الذي يكون لا زائدا ولا ناقصا ، وذلك يدلّ على أنّه تعالى لا يزيدهم على ما يستحقونه بأعمالهم ، ولا يتفضّل عليهم بشيء.
فالجواب : أنّ الثواب أيضا محض التّفضّل ، وأيضا فبتقدير أن يساعد على حصول الاستحقاق إلا أنّ لفظ «القسط» يدلّ على توفية الأجر ، فأمّا المنع من الزّيادة فلفظ «القسط» لا يدلّ عليه ، فإن قيل : لم خصّ المؤمنين بالقسط مع أنّه ـ تعالى ـ يجازي الكافرين أيضا بالقسط؟.
فالجواب : أنّ تخصيص المؤمنين يدلّ على مزيد العناية في حقّهم ، وعلى كونهم مخصوصين بمزيد الإحسان.
الوجه الثاني ـ في تفسير القسط ـ : أن المعنى : ليجزي الذين آمنوا بقسطهم ، وبما أقسطوا وعدلوا ولم يظلموا أنفسهم حين آمنوا وعملو الصّالحات ، لأنّ الشّرك ظلم ، قال تعالى (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] ، والعصاة أيضا قد ظلموا أنفسهم ، قال تعالى : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) [فاطر : ٣٢] وهذا أقوى ؛ لأنه في مقابلة قوله : (بِما كانُوا يَكْفُرُونَ).
قوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون مرفوعا بالابتداء ، والجملة بعده خبره.
والثاني : أن يكون منصوبا عطفا على الموصول قبله ، وتكون الجملة بعده مبيّنة لجزائهم. و «شراب» يجوز أن يكون فاعلا ، وأن يكون مبتدأ ، والأول أولى.
قوله : (بِما كانُوا) الظّاهر تعلّقه بالاستقرار المضمر في الجارّ الواقع خبرا ، والتقدير : استقرّ لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا. وجوّز أبو البقاء فيه وجهين ولم يذكر غيرهما :
الأول : أن يكون صفة أخرى ل «عذاب».
والثاني : أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، وهذا لا معنى له ، ولا حاجة إلى العدول عن الأوّل. قال الواحدي : الحميم : الذي أسخن بالنّار حتى انتهى حرّه ، يقال : حممت الماء ، أي : أسخنته ، أحميه ، فهو حميم ، ومنه الحمّام.
فصل
دلّت الآية على أنّه لا واسطة بين أن يكون المكلّف مؤمنا ، وبين أن يكون كافرا ، لأنّه اقتصر في الآية على ذكر هذين القسمين.
وأجاب القاضي : بأنّ ذكر هذين القسمين لا ينفي القسم الثالث ؛ لأنّ قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) [النور : ٤٥] ولم يدلّ ذلك على نفي القسم الرابع ، بل ربما ذكر المقصود أو الأكثر ،