فصل
معنى الآية : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا) في فنائها ، وزوالها (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ) أي : بالمطر (نَباتُ الْأَرْضِ) قال ابن عباس : نبت بالماء من كل لون (مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ) : من الحبوب والثّمار ، (وَالْأَنْعامُ) من الحشيش (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها) : حسنها ، وبهجتها ، وظهر الزهر أخضر ، وأحمر ، وأصفر ، وأبيض ، (وَازَّيَّنَتْ) شبهها بالعروس ، إذا لبست الثياب الفاخرة من كل لون (وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها) على جذاذها وقطافها وحصادها ، ردّ الكناية إلى الأرض (١) ، والمراد : النبات إذ كان مفهوما ، وقيل : إلى الغلّة ، وقيل : إلى الزّينة (أَتاها أَمْرُنا) : قضاؤنا بالهلاك (لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً) أي : محصودة مقطوعة ، وقال أبو عبيدة : «الحصيد : المستأصل» ، (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) من غني بالمكان : إذا أقام به.
قال الليث «يقال للشيء إذا فني : كأن لم يغن بالأمس ، أي : كأن لم يكن».
فصل
اعلم : أن تشبيه الحياة الدنيا بالنبات يحتمل وجوها ، لخّصها القاضي.
أحدها : أنّ عاقبة هذه الحياة التي ينفقها المرء في هذه الدنيا ، كعاقبة هذا النّبات ، الذي حين عظم الرّجاء في الانتفاع به ، وقع اليأس منه ؛ لأنّ المتمسّك بالدنيا ، إذا عظمت رغبته فيها ، يأتيه الموت ، وهو معنى قوله : (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) [الأنعام : ٤٤].
وثانيها : أنّه ـ تعالى ـ بيّن أنّه كما لم يحصل لذلك الزّرع عاقبة تحمد ، فكذلك المغترّ بالدّنيا المحبّ لها ، لا يحصل له عاقبة تحمد.
وثالثها : أنّ هذا التشبيه ، كقوله ـ تعالى ـ : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان : ٢٣] أي : لمّا صار سعي هذا الزّرع باطلا ، بسبب حدوث المهلك ، فكذلك سعي المغترّ بالدّنيا.
ورابعها : أنّ مالك هذا البستان لمّا أتعب نفسه في عمارته ، وكذلك الرّوح ، وعلّق قلبه بالانتفاع به ، فإذا حدث السبب المهلك ، صار العناء الشديد ، الذي تحمله في الماضي ، سببا لحصول الشقاء الشّديد له في المستقبل ، وهو ما يحصل في قلبه من الحشرات. فكذلك حال من أحبّ الدنيا ، وأتعب نفسه في تحصيلها ، فإذا مات ، وفاته كلّ ما نال ، صار العناء الذي تحمّله في تحصيل الدنيا ، سببا لحصول الشقاء العظيم له في الآخرة.
__________________
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٤٦) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٤٥) وزاد نسبته إلى ابن المنذر.