يحصل من السماء والأرض : أمّا من السّماء ، فبنزول المطر الموافق ، وأمّا من الأرض ، فلأنّ الغذاء إمّا أن يكون نباتا ، أو حيوانا : أمّا النبات فلأنّ الأرض تنبته ، وأمّا الحيوان ، فهو محتاج أيضا إلى الغذاء ، ولا يمكن أن يكون غذاء كل حيوان ، حيوانا آخر ، وإلا لزم التّسلسل ، وهو محال ، فثبت أنّ غذاء الحيوان ، يجب انتهاؤه إلى النّبات ، والنبات إنما يتولّد من الأرض ، فثبت أنّ الرزق إنما يحصل من السّماء والأرض ، ولا مدبّر لهما إلّا الله ـ تعالى ـ ، وأمّا أحوال الحواسّ فكذلك ، قال عليّ ـ رضي الله عنه ـ : سبحان من بصر بشحم ، وأسمع بعظم ، وأنطق بلحم.
قوله (مِنَ السَّماءِ) : «من» يجوز أن تكون الابتداء الغاية ، وأن تكون للتبعيض ، وأن تكون لبيان الجنس ، ولا بدّ على هذين الوجهين من مضاف محذوف ، أي : من أهل السّماء ، قوله : «أم» ، هذه «أم» المنقطعة ؛ لأنّه لم تتقدّمها همزة استفهام ولا تسوية ، ولكن إنّما تقدّر هنا ب «بل» وحدها ، دون الهمزة ، وقد تقرّر أنّ المنقطعة عند الجمهور تقدّر بهما ، وإنما لم تتقدّر هنا ب «بل» والهمزة ؛ لأنّها وقع بعدها اسم استفهام صريح ، وهو «من» ، فهو كقوله ـ تعالى ـ : (أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [النمل : ٨٤] ، والإضراب هنا على القاعدة المقررة في القرآن ، أنه إضراب انتقال ، لا إضراب إبطال.
قوله : (وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ).
قيل : يخرج الإنسان من النطفة ، والطائر من البيضة ، (وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) : يخرج النّطفة والبيضة من الإنسان ، والطّائر ، وقيل : يخرج المؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن ، ثم قال : (وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) وهذا كلام كليّ ؛ لأنّ تدبير أقسام الله في العالم العلويّ ، والسّفلي أمور لا نهاية لها ، وذكرها كالمتعذّر ، فلمّا ذكر بعض تلك التفاصيل ؛ عقّبها بالكلام الكلّي ليدلّ على الباقي ، ثم بيّن أنّ الرّسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ ، إذا سألهم عن مدبّر هذه الأمور ، فسيقولون هو الله ، وهذا يدلّ على أنّ المخاطبين بهذا الكلام ، كانوا يعرفون الله تعالى ، ويقرون به ، وهم الذين قالوا في عبادتهم الأصنام : إنّها تقربنا إلى الله زلفى ، وأنّهم شفعاؤنا عند الله ، وكانوا يعلمون أنّ هذه الأصنام ، لا تنفع ولا تضرّ ، فعند ذلك قال لرسوله : (فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) الشرك مع هذا الإقرار ، وقيل : أفلا تخافون عقابه في شرككم؟.
قوله : (فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ) الذي يفعل هذه الأشياء ، هو ربّكم الحقّ.
قوله : (فَما ذا بَعْدَ) يجوز أن يكون «ماذا» كلّه اسما واحدا ؛ لتركّبهما ، وغلّب الاستفهام على اسم الإشارة ، وصار معنى الاستفهام هنا النّفي ، ولذلك أوجب بعده ب «إلّا» ، ويجوز أن يكون «ذا» موصولا بمعنى : «الّذي» ، والاستفهام أيضا بمعنى : النّفي ؛ والتقدير : ما الذي بعد الحقّ إلّا الضّلال؟.
وإذا ثبت أنّ الله هو الحقّ ، وجب أن يكون ما سواه ضلالا ، أي : باطلا ؛ لأنّ