قوله : (لا يُغْنِي) : خبر «إنّ» ، و «شيئا» منصوب على المصدر ، أي : شيئا من الإغناء ، و (مِنَ الْحَقِّ) نصب على الحال من «شيئا» ؛ لأنّه في الأصل صفة له ، ويجوز أن تكون «من» بمعنى «بدل» ، أي : لا يغني بدل الحقّ ، وقرأ الجمهور : «يفعلون» على الغيبة ، وقرأ عبد (١) الله : «تفعلون» خطابا ، وهو التفات بليغ ، ومعنى الآية : إنّ الظّنّ لا يدفع عنهم من عذاب الله شيئا ، وقيل : لا يقوم مقام العلم.
فصل
تمسّك نفاة القياس بهذه الآية ، فقالوا : العمل بالقياس عمل بالظّنّ ، فوجب أن لا يجوز لهذه الآية ، وأجيبوا : بأنّ الدّليل الذي دلّ على وجوب العمل بالقياس ، دليل قاطع ، فكان وجوب العمل بالقياس معلوما ، فلم يكن العمل بالقياس مظنونا ، فأجابوا : بأنّه لو كان الحكم المستفاد من القياس يعلم كونه حكما لله ـ تعالى ـ ، لكان ترك العمل به كفرا ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) [المائدة : ٤٤] ولمّا لم يكن كذلك ، بطل العمل به ، ثم عبّروا عن هذه الحجّة ، فقالوا : الحكم المستفاد من القياس : إمّا أن يعلم كونه حكما لله ـ تعالى ـ ، أو يظن ، أو لا يعلم ولا يظن.
والأول باطل ، وإلّا لكان من لم يحكم به كافرا ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ،) وبالاتّفاق ليس كذلك.
والثاني : باطل ؛ لأنّ الحكم بالظّنّ لا يجوز ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً).
والثالث : باطل ؛ لأنه إذا لم يكن ذلك الحكم معلوما ، ولا مظنونا ، كان مجرد التّشهي ، فكان باطلا ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ) [مريم : ٥٩].
وأجاب مثبتو القياس : بأنّ حاصل هذا الدّليل ، يرجع إلى التّمسك بالعمومات ، والتّمسّك بالعمومات لا يفيد إلّا الظن ، فإذا دلّت العمومات ، على المنع من التّمسّك بالظنّ ، لزم كونها دالّة على المنع من التّمسّك بالظنّ ، وما أفضى ثبوته إلى نفيه ، كان متروكا.
دلّت هذه الآية : على أنّ كلّ من كان ظانّا في مسائل الأصول ، ولم يكن قاطعا ؛ فإنّه لا يكون مؤمنا.
فإن قيل : فقول أهل السّنّة : أنا مؤمن ـ إن شاء الله ـ ، يمنع من القطع ، فوجب أن يلزمهم الكفر.
__________________
(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٤٦ ، المحرر الوجيز ٣ / ١١٩ ، البحر المحيط ٥ / ١٥٨ ، الدر المصون ٤ / ٣٢.