أحدهما : أنّها منقطعة ، فتقدّر ب «بل» ، والهمزة عند سيبويه ، وأتباعه ، والتقدير : بل أتقولون ، انتقل عن الكلام الأول ، وأخذ في إنكار قول آخر.
والثاني : أنّها متصلة ، ولا بدّ حينئذ من حذف جملة ؛ ليصحّ التعادل ، والتقدير : أيقرون به ، أم يقولون افتراه ، وقال بعضهم : «أم» هذه بمنزلة الهمزة فقط ، وعبّر بعضهم عن ذلك ، فقال : «الميم زائدة على الهمزة» وهذا قول ساقط ؛ إذ زيادة الميم قليلة جدّا ، ولا سيّما هنا ، وزعم أبو عبيدة : «أنها بمعنى : الواو ، والتقدير : ويقولون افتراه».
قوله : (قُلْ فَأْتُوا) : جواب شرط مقدّر ، قال الزمخشري : «قل : إن كان الأمر كما تزعمون ، فأتوا أنتم على وجه الافتراء بسورة مثله ، فأنتم مثلي في العربيّة ، والفصاحة ، والأبلغيّة».
وقرأ (١) عمرو بن فائد : «بسورة مثله» بإضافة «سورة» إلى «مثله» على حذف الموصول ، وإقامة الصّفة مقامه ، والتقدير : بسورة كتاب مثله ، أو بسورة كلام مثله ، ويجوز أن يكون التقدير : فأتوا بسورة بشر مثله ، فالضّمير يجوز أن يعود في هذه القراءة على القرآن ، وأن يعود على النبي صلىاللهعليهوسلم ، وأمّا في قراءة العامّة ؛ فالضمير للقرآن فقط.
فإن قيل : لم قال في البقرة : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣] ، وقال هنا : «فأتوا بسورة مثله»؟.
فالجواب : أنّ محمدا ـ عليه الصلاة والسّلام ـ كان أمّيّا ، لم يتلمذ لأحد ، ولم يطالع كتابا فقال في سورة البقرة : (مِنْ مِثْلِهِ) أي : فليأت إنسان يساوي محمّدا في هذه الصّفات ، وعدم الاشتغال بالعلوم ، بسورة تساوي هذه السّورة ، وحيث لا يقدرون على ذلك ؛ فظهور مثل هذه السّورة من إنسان مثل محمّد ـ عليه الصلاة والسّلام ـ ، في عدم التتلمذ والتّعلم ، يكون معجزا.
وهنا بيّن أن السّورة في نفسها معجزة في نفسها ؛ فإنّ الخلق وإن تتلمذوا وتعلّموا ؛ فإنّه لا يمكنهم الإتيان بمعارضة سورة واحدة من هذه السور ؛ فلذلك قال ـ تعالى ـ ههنا : «فأتوا بسورة مثله».
فصل
تمسّك المعتزلة بهذه الآية : على أنّ القرآن مخلوق ؛ قالوا : إنّه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ تحدّى العرب بالقرآن ؛ والمراد بالتّحدّي : أنّه يطلب الإتيان بمثله منهم ؛ فإذا عجزوا عنه ، ظهر كونه حجّة من عند الله ـ تعالى ـ ، دالّة على صدقه ، وهذا إنّما يمكن ، إذا كان الإتيان بمثله صحيح الوجود في الجملة ، ولو كان القرآن قديما ؛ لكان الإتيان
__________________
(١) قال أبو حاتم : أمر عبد الله الأسود أن يسأل عمر عن إضافة «سورة» أو تنوينها ؛ فقال له عمر : كيف شئت.
ينظر : الكشاف ٢ / ٣٤٧ ، المحرر الوجيز ٣ / ١٢١ ، البحر المحيط ٥ / ١٥٩ ، الدر المصون ٤ / ٣٤.