قال ابن عطيّة : «جاء ينظر على لفظ «من» ، وإذا جاء على لفظها ، فجائز أن يعطف عليه آخر على المعنى ، وإذا جاء أولا على معناها ، فلا يجوز أن يعطف بآخر على اللفظ ؛ لأنّ الكلام يلبس حينئذ».
قال أبو حيّان (١) : «وليس كما قال ، بل يجوز أن تراعي المعنى أولا ، فتعيد الضّمير على حسب ما تريد به من المعنى : من تأنيث ، وتثنية ، وجمع ، ثم تراعي اللفظ فتعيد الضمير مفردا مذكرا ، وفي ذلك تفصيل تقدم أول البقرة [البقرة ٨].
فصل
أخبر ـ تعالى ـ في الآية أنّ الإيمان ، والتّوفيق به لا بغيره ، فقال : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) بأسماعهم الظاهرة ، ولا ينفعهم ، (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ) يريد : صمم القلب (وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ) : بعينه الظاهرة ولا ينفعه ، (أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ) يريد : عمى القلب ، (وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ) وهذه التّسلية من الله ـ عزوجل ـ لنبيّه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ يقول : إنّك لا تقدر أن تسمع من سلبته السّمع ، ولا أن تهدي من سلبته البصر ، ولا أن توفق للإيمان من حكمت عليه بأنّه لا يؤمن. والمقصود : إعلام الرّسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ : بأنهم قد بلغوا في معرض العقل ، إلى حيث لا يقبلون العلاج ، فالطّبيب إذا رأى مريضا لا يقبل العلاج ، أعرض عنه ، ولم يستوحش من عدم قبوله للعلاج ، فكذلك أنت لا تستوحش من حال هؤلاء الكفّار.
فصل
احتج أهل السّنّة بهذه الآية : على أنّ أفعال العباد من الله ؛ لأنّ الآية دلّت على : أنّ قلوب الكفار بالنسبة إلى الإيمان ، كالأصمّ بالنسبة إلى استماع الكلام. وكالأعمى بالنسبة إلى نظر الأشياء ، فكما أنّ هذا ممتنع ؛ فكذلك حصول الإيمان في القلب ليس باختيار الإنسان ، واحتجّ المعتزلة على صحّة قولهم ، بقوله ـ تعالى ـ بعدها : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [يونس : ٤٤] فدلّ ذلك على : أنّه ـ تعالى ـ ما ألجأ أحدا إلى فعل القبائح ، ولكنّهم يقدمون عليها باختيارهم ، وأجاب الواحدي : «بأنّه ـ تعالى ـ إنّما نفى الظلم عن نفسه ؛ لأنّه يتصرف في ملك نفسه ، ومن كان كذلك ، لم يكن ظالما ، وإنّما قال : (وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) لأنّ الفعل منسوب إليهم بسبب الكسب».
فصل
احتجّ ابن قتيبة بهذه الآية ، على أنّ السّمع أفضل من البصر ؛ لأنّه ـ تعالى ـ قرن بذهاب السّمع ، ذهاب العقل ، ولم يقرن بذهاب النّظر ، إلّا ذهاب البصر ، فكان السّمع
__________________
(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ١٦٢.