أفضل من البصر ، وردّه ابن الأنباري : بأنّ الذي نفاه الله من السّمع ، بمنزلة ما نفاه من البصر ؛ لأنّه ـ تعالى ـ أراد إبصار القلوب ، ولم يرد إبصار العيون ، والذي يبصره القلب ، هو الذي يعقله.
واحتجّ ابن قتيبة بحجة أخرى ، فقال : كلّما ذكر الله السّمع في القرآن ، فإنّه غالبا يقدم السّمع على البصر ، فدل على أنّ السّمع أفضل من البصر ، وذكر بعض النّاس في تفضيل السمع على البصر وجوها أخر.
أحدها : أنّ العمى قد وقع في حقّ الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسّلام ـ ، وأمّا الصّمم فغير جائز عليهم ؛ لأنّه يخلّ بأداء الرّسالة ؛ لأنّه إذا لم يسمع كلام السائلين ، تعذّر عليه الجواب ، فيعجز عن تبليغ الشّرائع.
وثانيها : أنّ القوة السامعة تدرك المسموع من جميع الجهات ، والقوة الباصرة لا تدرك المرئي إلّا من الجهة المقابلة وحدها.
وثالثها : أنّ الإنسان إنّما يستفيد العلم من أستاذه ، وذلك لا يمكن إلا بقوّة السمع ، ولا يتوقف على قوّة البصر ، فكان السّمع أفضل.
ورابعها : أنّه ـ تعالى ـ قال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق : ٣٧] ، والمراد بالقلب ههنا : العقل ، فجعل السّمع قرينا للعقل ، ويؤيّده قوله ـ تعالى ـ : (وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) [الملك : ١٠] ، فجعلوا السّمع سببا للخلاص من عذاب السّعير.
وخامسها : أنّ المعنى الذي به يمتاز الإنسان عن سائر الحيوانات ؛ هو النّطق والكلام ، وإنما ينتفع بذلك القوّة السّامعة ، فمتعلق السمع : النطق الذي شرف الإنسان به ، ومتعلّق البصر : إدراك الألوان والأشكال ، وذلك أمر يشترك فيه النّاس ، وسائر الحيوانات ؛ فوجب أن يكون السمع أفضل من البصر.
وسادسها : أنّ الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسّلام ـ يراهم النّاس ، ويسمعون كلامهم ؛ فنبوّتهم ما حصلت بما معهم من الصّفات المرئيّة ، وإنما حصلت بما معهم من الأقوال المسموعة ، وهو تبليغ الشرائع والأحكام ؛ فوجب أن يكون المسموع أفضل من المرئيّ ؛ فلزم كون السمع أفضل من البصر.
وقال آخرون : البصر أفضل من السّمع لوجوه :
الأول : قولهم في المثل : «ليس وراء العيان بيان» ، فدلّ على : أنّ أكمل وجوه الإدراك هو البصر.
الثاني : أنّ آلة القوّة الباصرة ، هو النّور ، وآلة القوة السّامعة هي الهواء ، والنّور أشرف من الهواء ، فالقوّة الباصرة أشرف من القوة السّامعة.