عمله ، قال ابن عبّاس : وما تكون يا محمّد في شأن ، أي : في عمل من أعمال البرّ (١) ، وقال الحسن : في شأن من شأن الدّنيا (٢).
قوله : (وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ) هذا خطاب للنبي وأمّته ، وخصّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم بالخطاب أوّلا ، ثم عمّم الخطاب مع الكلّ ؛ لأنّ تخصيصه وإن كان في الظّاهر مختصّا بالرسول ، إلّا أنّ الأمّة داخلون فيه ؛ لأنّ رئيس القوم إذا خوطب دخل قومه في ذلك الخطاب ؛ كقوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ) [الطلاق : ١].
قوله : (إِلَّا كُنَّا) هذه الجملة حالية ، وهو استثناء مفرّغ ، وولي «إلا» هنا الفعل الماضي دون «قد» لأنّه قد تقدّمها فعل ، وهو مجوّز لذلك ، وقوله : «إذ» هذا الظرف معمول ل «شهودا» ولمّا كانت الأفعال السّابقة المراد بها الحالة الدّائمة ، وتنسحب على الأفعال الماضية ، كان الظّرف ماضيا ، وكان المعنى : وما كنت ، وما تكون ، وما عملتم ، إلّا كنّا عليكم شهودا ، إلّا أفضتم فيه ، و «إذ» تخلّص المضارع لمعنى الماضي ، ومعنى «تفيضون» أي : تدخلون فيه وتفيضون ، والإفاضة : الدّخول في العمل ، يقال : أفاض القوم في الحديث ؛ إذا اندفعوا فيه ، وقد أفاضوا من عرفة ؛ إذا دفعوا منها بكثرتهم.
فإن قيل : «إذ» ههنا بمعنى : «حين» ، فيصير التقدير : إلّا كنّا عليكم شهودا حين تفيضون فيه ، وشهادة الله ـ تعالى ـ عبارة عن علمه ؛ فيلزم منه أنّه ـ تعالى ـ ما علم الأشياء إلّا عند وجودها ، وذلك باطل.
فالجواب : أنّ هذا السّؤال بناء على أن شهادة الله عبارة عن علمه ، وهذا ممنوع ؛ فإنّ الشهادة لا تكون إلّا عند المشهود عليه ، أمّا العلم فلا يمتنع تقدّمه على الشّيء ، ويدلّ على ذلك أنّ الرسول لو أخبرنا عن زيد أنّه يأكل غدا ، كنا من قبل حصول تلك الحالة عالمين بها ، ولا نوصف بكوننا شاهدين بها.
قوله ـ تعالى ـ : (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ) قرأ الكسائيّ (٣) هنا ، وفي سبأ [سبأ ٣] : «يعزب» بكسر الزّاي ، والباقون بضمها ، وهما لغتان في مضارع «عزب» ، يقال : عزب يعزب ويعزب. أي : غاب حتّى خفي ، ومنه الروض العازب ؛ قال أبو تمام : [الطويل]
٢٩١٠ ـ وقلقل نأي من خراسان جأشها |
|
فقلت : اطمئنّي ، أنضر الرّوض عازبه (٤) |
وقيل للغائب عن أهله : «عازب» ، حتّى قالوا لمن لا زوج له : عازب. وقال الرّاغب : «العازب : المتباعد في طلب الكلأ ، ويقال : رجل عزب وامرأة عزبة ، وعزب
__________________
(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٧ / ٩٨) عن ابن عباس.
(٢) انظر المصدر السابق.
(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٥٥ ، المحرر الوجيز ٣ / ١٢٨ ، البحر المحيط ٥ / ١٧٢ ، الدر المصون ٤ / ٤٧.
(٤) ينظر البيت في ديوانه ٤٣ ، البحر المحيط ٥ / ١٤٨ ، الدر المصون ٤ / ٤٨.