وقال أبو البقاء (١) ومكّي (٢) : إنّ الضمير في كانوا يعود على قوم الرّسل ، وفي «كذّبوا» يعود على قوم نوح ، والمعنى : فما كان قوم الرّسل ليؤمنوا بما كذّب به قوم نوح ، أي : بمثله ، ويجوز أن تكون الهاء عائدة على نوح نفسه ، من غير حذف مضاف ، والتقدير : فما كان قوم الرّسل بعد نوح ليؤمنوا بنوح ؛ إذ لو آمنوا به ، لآمنوا بأنبيائهم.
و (مِنْ قَبْلُ) متعلق ب «كذّبوا» أي : من قبل بعثة الرّسل.
وقيل : الضّمائر كلّها تعود على قوم الرسل بمعنى آخر : وهو أنّهم بادروا رسلهم بالتكذيب ، كلما جاء رسول ، لجّوا في الكفر ، وتمادوا عليه ، فلم يكونوا ليؤمنوا بما سبق به تكذيبهم من قبل لجّهم في الكفر ، وتماديهم.
وقال ابن عطية (٣) : ويحتمل اللّفظ عندي معنى آخر ، وهو أن تكون «ما» مصدرية ، والمعنى : فكذّبوا رسلهم ، فكان عقابهم من الله أن لم يكونوا ليؤمنوا بتكذيبهم من قبل ، أي : من سببه ومن جرّائه ، ويؤيّد هذا التأويل : (كَذلِكَ نَطْبَعُ) وهو كلام يحتاج إلى تأمّل.
قال أبو حيّان : والظّاهر أنّ «ما» موصولة ؛ ولذلك عاد الضمير عليها في قوله : (بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) ولو كانت مصدرية ، بقي الضمير غير عائد على مذكور ؛ فتحتاج أن يتكلّف ما يعود عليه الضمير.
قال شهاب الدّين (٤) ـ رحمهالله ـ : «الشيخ بناه على قول جمهور النّحاة : في عدم كون «ما» المصدريّة اسما ؛ فيعود عليها ضمير ، وقد تقدّم مرارا ، أنّ مذهب الأخفش ، وابن السراج : أنّها اسم فيعود عليها الضمير».
وقرأ العامّة : «نطبع» بالنّون الدّالة على تعظيم المتكلّم. وقرأ العبّاس (٥) بن الفضل : بياء الغيبة ، وهو الله ـ تعالى ـ ؛ ولذلك صرّح به في موضع آخر : (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ) [الأعراف : ١٠١]. والكاف نعت لمصدر محذوف ، أو حال من ذلك المصدر على حسب ما عرفته من الخلاف ، أي : مثل ذلك الطّبع المحكم الممتنع زواله ، نطبع على قلوب المعتدين على خلق الله.
فصل
احتجّ أهل السّنّة على أنّه ـ تعالى ـ قد يمنع المكلّف عن الإيمان بهذه الآية.
قالت المعتزلة : فقد قال ـ تعالى ـ : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) [النساء : ١٥٥] ولو كان هذا الطّبع مانعا ، لما صحّ هذا الاستثناء ، وقد تقدّم البحث في ذلك عند قوله ـ تعالى ـ : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ).
__________________
(١) ينظر : الإملاء ٢ / ٣١.
(٢) ينظر : المشكل ١ / ٣٨٨.
(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١٣٣.
(٤) ينظر : الدر المصون ٤ / ٥٦.
(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١٣٣ ، البحر المحيط ٥ / ١٧٩ ، الدر المصون ٤ / ٥٦.