قوله تعالى : (وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) الآية.
قوله تعالى : «فعليه» جواب الشرط ، والشرط الثاني ـ وهو (إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) ـ شرط في الأول ، وذلك أنّ الشّرطين متى لم يترتّبا في الوجود ، فالشّرط الثّاني شرط في الأول ، ولذلك يجب تقدّمه على الأول ، وقد تقدّم تحقيق ذلك [البقرة ٣٨].
قال الفقهاء : المتأخر يجب أن يكون متقدما ، والمتقدّم يجب أن يكون متأخرا ، مثاله قول الرّجل لامرأته : إن دخلت الدار ، فأنت طالق إن كلمت زيدا ، فمجموع قوله : إن دخلت الدّار ، فأنت طالق مشروط بقوله : إن كلّمت زيدا ، والمشروط متأخّر عن الشّرط ، وذلك يقتضي أن يكون المتأخّر في اللفظ ، متقدما في المعنى ، وأن يكون المتقدم في اللفظ متأخرا في المعنى ، فكأنّه يقول لامرأته : حال ما كلمت زيدا إن دخلت الدّار ، فأنت طالق ، فلو حصل هذا التعليق ، قيل: إن كلّمت زيدا لم يقع الطلاق.
فقوله : (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) يقتضي أن يكون كونهم مسلمين شرطا ؛ لأن يصيروا مخاطبين بقوله : (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا) فكأنّه ـ تعالى ـ يقول للمسلم حال إسلامه : إن كنت من المؤمنين بالله فعلى الله توكّل ، والأمر كذلك ؛ لأنّ الإسلام عبارة عن الاستسلام ، وهو الانقياد لتكاليف الله ، وترك التمرد ، والإيمان عبارة عن صيرورة القلب ، عارفا بأن واجب الوجود لذاته واحد ، وأنّ ما سواه محدث مخلوق تحت تدبيره ، وقهره ، وإذا حصلت هاتان الحالتان ، فعند ذلك يفوّض العبد جميع أموره إلى الله ـ تعالى ـ ، ويحصل في القلب نور التّوكّل على الله ـ تعالى ـ.
فصل
إنما قال : (فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا) ولم يقل : «توكلوا على الله» ، لأن الأول يفيد الحصر ، كأنه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ أمرهم بالتّوكّل عليه ، ونهاهم عن التوكّل على الغير ، ثم بيّن ـ تعالى ـ أنّ موسى ـ عليه الصلاة والسّلام ـ لمّا أمرهم بذلك قبلوا قوله (فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) أي : توكّلنا عليه واعتمادنا ، ولم نلتفت إلى أحد سواه ، ثم اشتغلوا بالدعاء ، وطلبوا من الله شيئين:
أحدهما : أن قالوا : (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).
والثاني : (وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) أما قولهم : (لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ففيه وجوه :
الأول : لا تفتن بنا فرعون وقومه ؛ لأنك لو سلطّتهم علينا ، لوقع في قلوبهم أنّا لو كنّا على الحقّ ، لما سلّطتهم علينا ؛ فيصير ذلك شبهة قويّة في إصرارهم على الكفر ؛ فيكون ذلك فتنة لهم.
الثاني : لو سلّطتهم علينا ، لاستوجبوا العقاب الشّديد في الآخرة ، وذلك يكون فتنة لهم.