الثالث : أنّ المراد بالفتنة المفتون ؛ لأنّ إطلاق لفظ المصدر على المفعول جائز ، كالخلق بمعنى المخلوق والتقدير : لا تجعلنا مفتونين بأنّ يقهرونا بالظّلم على أن ننصرف من هذا الدّين الذي قبلناه ، ويؤكّد هذا قوله : (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ) [يونس : ٨٣] وأمّا المطلوب الثاني ، فهو قوله : (وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ).
وهذا يدلّ على أنّ اهتمامهم بأمر دينهم كان فوق اهتمامهم بأمر دنياهم ؛ لأنّا إذا حملنا قولهم : (لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [يونس : ٨٥] ، على تسليط الكفّار عليهم وصيرورة ذلك التسليط شبهة للكفار في أنّ هذا الدّين باطل ، فتضرعوا إلى الله ـ تعالى ـ في صون الكفّار عن هذه الشّبهة ، وتقديم هذا الدّعاء على طلب النّجاة لأنفسهم ، وذلك يدل على أن اهتمامهم بمصالح أديانهم فوق اهتمامهم بمصالح أبدانهم.
قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧) وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)(٨٩)
قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً) الآية.
لمّا شرح خوف المؤمنين من الكفّار ، وما ظهر منهم من التّوكّل على الله ، أتبعه بأن أمر موسى ، وهارون باتخاذ المساجد ، والإقبال على الصّلوات.
قوله (أَنْ تَبَوَّءا) يجوز في «أن» أن تكون المفسّرة ؛ لأنّه قد تقدّمها ما هو بمعنى القول وهو الإيحاء ، ويجوز أن تكون المصدريّة ، فتكون في موضع نصب ب «أوحينا» مفعولا به ، أي : أوحينا إليهما التّبوّء.
والجمهور على الهمزة في «تبوّآ» وقرأ حفص (١) «تبوّيا» بياء خالصة ، وهي بدل عن الهمزة ، وهو تخفيف غير قياسي ، إذ قياس تخفيف مثل هذه الهمزة : أن تكون بين الهمزة والألف ، وقد أنكر هذه الرّواية عن حفص جماعة من القرّاء ، وخصّها بعضهم بحالة الوقف ، وهو الذي لم يحك أبو عمرو الدّاني والشاطبي غيره ، وبعضهم يطلق إبدالها عنه ياء وصلا ووقفا ، وعلى الجملة فهي قراءة ضعيفة في العربية ، وفي الرواية.
والتّبوّؤ : النزول والرجوع ، يقال : تبوّأ المكان : أي : اتخذه مبوّأ ، وقد تقدّمت هذه
__________________
(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١٣٨ ، البحر المحيط ٥ / ١٨٤ ، الدر المصون ٤ / ٦٣.