التّنحية أي : نلقيك فيما يلي البحر ، قال المفسرون : رماه إلى ساحل البحر كالثّور. وهل ننجّيك من النجاة بمعنى نبعدك عمّا وقع فيه قومك من قعر البحر ، وهو تهكّم بهم ، أو من ألقاه على نجوة أي : ربوة مرتفعة ، أو من النّجاة ، وهو التّرك أو من النّجاء ، وهو العلامة ، وكلّ هذه معان لائقة بالقصّة ، والظّاهر أنّ قوله : (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ) خبر محض. وزعم بعضهم أنّه على نيّة همزة الاستفهام ، وفيه بعد لحذفها من غير دليل ، ولأنّ التعليل بقوله «لتكون» لا يناسب الاستفهام.
و «لتكون» متعلق ب «ننجّيك» و «آية» أي : علامة وقيل : عبرة وعظة ، و (لِمَنْ خَلْفَكَ) في محلّ نصب على الحال من «آية» لأنّه في الأصل صفة لها.
وقرأ بعضهم «لمن خلقك» آية كسائر الآيات. وقرىء (١) «لمن خلفك» بفتح اللّام جعله فعلا ماضيا ، أي : لمن خلفك من الجبابرة ليتّعظوا بذلك. وقرىء (٢) «لمن خلقك» بالقاف فعلا ماضيا ، وهو الله تعالى أي : ليجعلك الله آية له في عباده.
فصل
في كون ه «لمن خلفه آية» وجوه :
أحدها : أنّ الذين اعتقدوا إلاهيته لمّا لم يشاهدوا غرقه كذّبوا بذلك ، وزعموا أنّ مثله لا يموت ، فأخرجه الله تعالى بصورته حتى أبصروه وزالت الشّبهة عن قلوبهم.
الثاني : أنّه تعالى أراد أن يشاهده الخلق على ذلك الذل والمهانة بعد ما سمعوا منه قوله : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) ليكون ذلك زجرا للخلق عن مثل طريقته.
الثالث : أنه تعالى لمّا أغرقه مع جميع قومه ، ثمّ إنّه تعالى ما أخرج أحدا منهم من قعر البحر ، بل خصّه بالإخراج كان تخصيصه بهذه الحالة عجيبة دالة على قدرة الله تعالى ، وعلى صدق موسى ـ عليه الصلاة والسّلام ـ في دعوة النبوّة.
الرابع : تقدم في قراءة من قرأ لمن خالقك بالقاف أي لتكون لخالقك آية كسائر آياته.
ثم قال تعالى (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) والظّاهر أنّ هذا الخطاب لأمة محمد ـ عليه الصلاة والسّلام ـ زجرا لهم عن الإعراض عن الدّلائل ، وباعثا لهم على التأمّل فيها والاعتبار بها ، كما قال تعالى : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) [يوسف : ١١١].
قوله تعالى : (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ
__________________
(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٦٩ ، المحرر الوجيز ٣ / ١٤٢ ، البحر المحيط ٥ / ١٨٩ ، الدر المصون ٤ / ٦٨.
(٢) ينظر : السابق.