فصل
في كون القرآن سببا لحدوث الاختلاف وجهان :
الأول : أنّ اليهود كانوا يخبرون بمبعث محمد ـ عليه الصلاة والسّلام ـ ويفتخرون به على سائر النّاس ، فلمّا بعثه الله تعالى كذّبوه حسدا ، وبغيا وإيثارا لبقاء الرّياسة ، وآمن به طائفة منهم ، فبهذا الطريق كان سببا لحدوث الاختلاف فيهم.
الثاني : أنّ هذه الطائفة من بني إسرائيل كانوا قبل نزول القرآن كفارا محضا بالكلّيّة ، وبقوا على هذه الحالة حتّى جاءهم القرآن ، فعند ذلك اختلفوا فآمن قوم وبقي قوم كفارا. ثم قال : (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي : أنّ هذا الاختلاف لا يمكن إزالته في دار الدنيا ، وإنّما يقضى بينهم في الآخرة ، فيتميز المحق من المبطل.
قوله : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍ) الآية.
قال الواحديّ «الشّك في اللغة ، ضمّ بعض الشّيء إلى بعض ، يقال : شككت الصّيد إذا رميته فنظمت يده إلى أو رجله إلى رجله ، والشّكائك من الهوادج ما شكّ بعضها ببعض والشّكاك : البيوت المصطفّة ، والشّكائك : الأدعياء ؛ لأنّهم يشكون أنفسهم إلى قوم ليسوا منهم ، أي : يضمّون ، وشكّ الرّجل في السّلاح ، إذا دخل فيه وضمّه إلى نفسه. فإذا قالوا : شكّ فلان في الأمور أرادوا أنّه وقف نفسه بين شيئين ، فيجوز هذا ويجوز هذا فهو يضم إلى ما يتوهمه شيئا آخر خلافه».
ولمّا ذكر اختلافهم عند ما جاءهم العلم ذكر في هذه الآية ما يقوّي قلبه في صحّة القرآن والنبوة.
وفي «إن» هذه وجهان :
أظهرهما : أنّها شرطية ، واستشكلوا على ذلك أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم لم يكن في شكّ قط قال الزمخشريّ : «فإن قلت : كيف قال لرسوله : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ) مع قوله للكفرة : (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) [هود : ١١٠]؟ قلت : فرق عظيم بين إثباته والتّمثيل». وقال أبو حيان : فإذا كانت شرطية فقالوا : إنّها تدخل على الممكن وجوده أو المحقّق وجوده ، المبهم زمن وقوعه ، كقوله تعالى : (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) [الأنبياء : ٣٤] قال : «والذي أقوله إنّ «إن» الشرطية تقتضي تعليق شيء على شيء ، ولا تستلزم تحقّق وقوعه ولا إمكانه ، بل قد يكون ذلك في المستحيل عقلا كقوله تعالى (إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) [الزخرف : ٨١] ، ومستحيل أن يكون له ولد فكذلك مستحيل أن يكون في شك ، وفي المستحيل عادة كقوله تعالى : (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ) [الأنعام : ٣٥] لكنّ وقوعها في تعليق المستحيل قليل».
ثم قال : «ولمّا خفي هذا الوجه على أكثر النّاس ؛ اختلفوا في تخريج هذه الآية ، فقال ابن عطيّة : الصّواب أنّها مخاطبة له ، والمراد من سواه من أمته ممن يمكن أن يشكّ