فصل
قيل : السؤال كان عن القرآن ، ومعرفة نبوّة الرّسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ. وقيل : السؤال راجع إلى قوله (فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ) والأول أولى ؛ لأنّه الأهمّ. ولمّا بين هذا الطريق قال : (لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أي : ثبت عنده بالآيات والبراهين القاطعة أنّ ما أتاك هو الحق : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) أي : لا مدخل للمرية فيه (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) أي : اثبت ، ودم على ما أنت عليه من انتفاء المرية ، وانتفاء التكذيب بآيات الله. وروي أنّه عليه الصلاة والسّلام قال عند نزوله : «لا أشكّ ولا أسأل بل أشهد أنّه الحقّ» (١).
ثم لمّا فصّل تعالى هذا التفصيل ، بيّن أنّ له عبادا ، قضى عليهم بالشّقاء ، فلا تتغيّر ، وعبادا قضى لهم بالكرامة ، فلا تتغير ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ).
قرأ نافع (٢) وابن عامر كلمات على الجمع ، والباقون : بالإفراد. فكلمات بحسب الكثرة النوعية أو الصنفية وكلمة بحسب الجنسية.
والمراد بهذه الكلمة : حكم الله بذلك ، وإخباره عنه ، وخلقه في العبد مجموع القدرة ، والدّاعية الموجبة لحصول ذلك الأثر.
واحتجّوا بهذه الآية على صحّة القول بالقضاء والقدر. ثم قال (وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) أي : أنهم لا يؤمنون ألبتّة ، ولو جاءتهم الدّلائل التي لا حدّ لها ولا حصر ؛ لأنّ الدّليل لا يهدي إلّا بإعانة الله ، فإذا لم تحصيل الإعانة ضاعت تلك الدّلائل.
القصة الثالثة
قوله تعالى : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ) الآية.
لمّا بيّن بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) أتبعه بهذه الآية ؛ لأنّها دالة على أنّ قوم يونس آمنوا بعد كفرهم ، وانتفعوا بذلك الإيمان ، فدلّ ذلك على أنّ الكفّار فريقان :
فريق ختم له بالإيمان.
وفريق ختم له بالكفر ، وكلّ ما قضى الله به فهو واقع.
قوله : «فلو لا» لو لا هنا تحضيضية ، وفيها معنى التّوبيخ ؛ كقول الفرزدق : [الطويل]
٢٩٣٨ ـ تعدّون عقر النّيب أفضل مجدكم |
|
بني ضوطرى لو لا الكميّ المقنّعا (٣) |
__________________
(١) أخرجه عبد الرزاق (١٠٢١١) والطبري في «تفسيره» (٦ / ٦١٠) عن قتادة مرسلا.
(٢) تقدمت.
(٣) تقدم.