أن يكون من العبد ، أو من الله ، فإن كان من العبد عاد التّقسيم ولزم التسلسل ، وهو محال ، وإن كان من الله ، كان مجموع تلك القدرة مع تلك الدّاعية موجبا لذلك الكفر ، فإذا كان خالق القدرة والدّاعية هو الله تعالى عاد الإلزام.
ثانيها : أن قوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ) لا يجوز حمله على مشيئة الإلجاء ؛ لأنّ النبي ـ عليه الصلاة والسّلام ـ ما كان يطلب منهم إلّا إيمانا ينتفعون به في الآخرة ، فبيّن تعالى ؛ أنّه لا قدرة للرّسول على تحصيل هذا الإيمان ، ثم قال : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) فوجب أن يكون المراد منه هذا الإيمان النّافع حتى ينتظم الكلام ، وحمل اللفظ على مشيئة القهر والإلجاء لا يليق بهذا الموضع.
وثالثها : أنّ الإلجاء إمّا أن يكون بأن يظهر له آيات هائلة يعظم خوفه عند رؤيتها ، فيأتي بالإيمان عندها ، وإمّا أن يكون بخلق الإيمان فيهم ، والأول باطل ؛ لأنه تعالى قال :(إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس : ٩٦ ، ٩٧] وقال : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الأنعام : ١١١] فبيّن أنّ إنزال الإيمان لا يفيد ، وإن كان المراد هو الثاني لم يكن هذا الإلجاء إلى الإيمان ، بل كان عبارة عن خلق الإيمان فيهم ، فيصير المعنى : ولو شاء ربك حصول الإيمان لهم لخلق الإيمان فيهم ، ثم يقال : لكنه ما خلق الإيمان فيهم ، فدلّ على أنّه ما أراد حصول الإيمان لهم ، وهو المطلوب. ثم قال : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أي أنه : لا قدرة لك على التّصرف في أحد.
قوله : «أفأنت» يجوز في «أنت» وجهان ، أحدهما : أن يرتفع بفعل مقدّر مفسّر بالظّاهر بعده ، وهو الأرجح ؛ لأنّ الاسم قد ولي أداة هي بالفعل أولى.
والثاني : أنّه مبتدأ والجملة بعده خبره ، وقد تقدّم ما في ذلك من كون الهمزة مقدمة على العاطف أو ثمّ جملة محذوفة كما هو رأي الزمخشري. وفائدة إيلاء الاسم للاستفهام إعلام بأنّ الإكراه ممكن مقدور عليه ، وإنّما الشّأن في المكره من هو؟ وما هو إلا هو وحده لا مشاركة فيه لغيره. و «حتّى» غاية للإكراه.
قوله : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ) كقوله : (أَنْ تَمُوتَ) [آل عمران : ١٤٥] وقد تقدم في آل عمران [١٤٥]. والمعنى : ما ينبغي لنفس. وقيل : ما كانت لتؤمن إلّا بإذن الله. قال ابن عبّاس : بأمر الله (١). وقال عطاء : بمشيئة الله (٢). وقيل : بعلم الله. (وَيَجْعَلُ) قرأ أبو بكر (٣) عن عاصم بنون العظمة. والباقون : بياء الغيبة وهو الله تعالى. وقرأ
__________________
(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٧٠).
(٢) انظر المصدر السابق.
(٣) ينظر : السبعة ص (٣٣٠) ، الحجة ٤ / ٣٠٦ ، إعراب القراءات ١ / ٢٧٦ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١٢٠.