هذا الشّرط : أنّ المجاهد قد يجاهد ولا يكون مخلصا ، بل يكون منافقا باطنه خلاف ظاهره ، فبيّن أنّه لا بد وأن يأتوا بالجهاد مع الإخلاص خاليا عن الرياء ، والنفاق ، والتّودّد إلى الكفار.
والمقصود : بيان أنّه ليس الغرض منه إيجاب القتال فقط ، بل الغرض أن يؤتى به انقيادا لأمر الله ، ولحكمه وتكليفه ، ليظهر به بذل النفس والمال في طلب رضوان الله فحينئذ يحصل به الانتفاع.
قوله : (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) قرأ الحسن (١) «بما يعملون» بالغيبة على الالتفات ، وبها قرأ يعقوب في رواية سلّام ، أي : عالم بنياتهم ، وأغراضهم ، لا يخفى عليه منها شيء.
قال ابن عبّاس : إنّ الله لا يرضى أن يكون الباطن خلاف الظّاهر ، ولا الظّاهر خلاف الباطن ، وإنّما يريد من خلقه الاستقامة ، كما قال (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) [فصلت : ٣٠] ، قال : ولمّا فرض القتال ، تميّز المنافق من غيره ، وتميّز من يوالي المؤمنين ممّن يعاديهم (٢).
قوله تعالى : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ)(١٨)
قوله تعالى : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) الآية.
اعلم أنّه تعالى بدأ السّورة بذكر البراءة من الكفّار ، وبالغ في ذلك ، وذكر من أنواع قبائحهم ما يوجب تلك البراءة ، ثمّ إنّه تعالى حكى عنهم شبها احتجوا بها في أنّ هذه البراءة غير جائزة ، وأنّه يجب مخالطتهم ومناصرتهم ، فأولها هذه الآية ، وذلك أنّهم ذكروا أنهم موصوفون بصفات حميدة توجب مخالطتهم ومعاونتهم ، ومناصرتهم ، ومن جملة تلك الصّفات ، كونهم عامرين للمسجد الحرام.
قال ابن عبّاس : لمّا أسر العبّاس يوم بدر ، وعيّره المسلمون بالكفر ، وقطيعة الرّحم ، وأغلظ له عليّ القول ، فقال العبّاس : ما لكم تذكرون مساوئنا ، ولا تذكرون محاسننا؟ فقال له عليّ : ألكم محاسن؟ فقال : نعم ، إنّا لنعمر المسجد الحرام ، ونحجب الكعبة ، ونسقي الحاجّ ، ونفكّ العاني ؛ فأنزل الله تعالى ردّا على العبّاس : (ما كانَ
__________________
(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢٠ ، الدر المصون ٣ / ٤٥٣.
(٢) ذكره الرازي في «التفسير الكبير» (١٦ / ٦) عن ابن عباس.