وقيل : «فصّلت» أي : أنزلت شيئا فشيئا كقوله تعالى : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ) [الأعراف : ١٣٣] ، وقيل : جعلت فصولا : حلالا ، وحراما ، وأمثالا ، وترغيبا وترهيبا ومواعظ وأمرا ونهيا.
فصل
احتجّ الجبائي بهذه الآية على أنّ القرآن محدث مخلوق من ثلاثة أوجه :
الأول : قال : المحكم هو الذي أتقنه فاعله ، ولو لا أنّ الله ـ تعالى ـ خلق هذا القرآن ، لم يصحّ ذلك ؛ لأنّ الإحكام لا يكون إلّا في الأفعال ، ولا يجوز أن يقال : كان موجودا غير محكم ، ثم جعله الله محكما ؛ لأنّ هذا يقتضي في بعضه الذي جعله محكما بأن يكون محدثا ، ولم يقل أحد بأنّ القرآن بعضه قديم وبعضه محدث.
الثاني : أنّ قوله : «فصّلت» يدلّ على أنّه حصل فيه انفصال وافتراق ، ويدلّ على أنّ ذلك الانفصال والافتراق إنّما حصل بجعل جاعل.
الثالث : قوله تعالى : (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ،) والمراد من عنده ، والقديم لا يقال : إنّه حصل من عند قديم آخر ؛ لأنّهما إن كانا قديمين ، لم يكن القول بأنّ أحدهما حصل من عند الآخر أولى من العكس.
وأجيب بأنّ النّعوت عائدة إلى هذه الحروف والأصوات ، ونحن معترفون بأنّها مخلوقة ، وإنّما الذي يدّعى قدمه أمر آخر سوى هذه الحروف والأصوات.
قوله : (مِنْ لَدُنْ) أي : من عند ، يجوز أن تكون صفة ثانية ل «كتاب» وأن تكون خبرا ثانيا عند من يرى جواز ذلك ، ويجوز أن تكون معمولة لأحد الفعلين المتقدّمين يعني : «أحكمت» أو «فصّلت» ويكون ذلك من باب التنازع ، ويكون من إعمال الثاني ، إذ لو أعمل الأول لأضمر في الثاني ، وإليه نحا الزّمخشري فقال : وأن يكون صلة «أحكمت» «فصّلت» ، أي : من عنده أحكامها وتفصيلها ، والمعنى : أحكمها حكيم وفصّلها ، أي : شرحها وبيّنها خبير بكيفيات الأمور.
قال أبو حيان (١) : لا يريد أنّ (مِنْ لَدُنْ) متعلق بالفعلين معا من حيث صناعة الإعراب ، بل يريد أن ذلك من باب الإعمال ، فهي متعلقة بهما من حيث المعنى ، وهو معنى قول أبي البقاء أيضا : ويجوز أن يكون مفعولا ، والعامل فيه فصّلت.
قوله : «أن لا (تَعْبُدُوا) فيه أوجه :
أحدها : أن تكون أن المخففة من الثّقيلة ، و «لا (تَعْبُدُوا) جملة نهي في محلّ رفع خبرا ل «أن» المخففة ، واسمها على ما تقرّر ضمير الأمر والشّأن محذوف.
والثاني : أنّها المصدرية النّاصبة ، ووصلت هنا بالنّهي ، ويجوز أن تكون «لا» نافية ،
__________________
(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢٠١.