والمعنى : إذا أذقناه نعمة بعد بلاء أصابه : (لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي) زالت الشّدائد عنّي ، إنّه لفرح فخور أشر بطر ، والفرح : لذّة في القلب بنيل المشتهى. والفخر : هو التطاول على الناس بتعديد المناقب ، وذلك منهيّ عنه.
فصل
اعلم أنّ أحوال الدنيا أبدا في التّغير والزّوال ، والتحوّل والانتقال ، فإمّا أن يتحوّل الإنسان من النّعمة إلى المحنة أو العكس.
فأمّا الأول : فهو المراد بقوله عزوجل : (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ) [هود : ٩] أي أنه حال زوال تلك النعمة يصير يئوسا ؛ لأنّ الكافر يعتقد أنّ السبب في حصول تلك النّعمة سبب اتفاقي ، ثمّ إنه يستبعد حدوث ذلك الاتفاق مرة أخرى ، فلا جرم يستبعد تلك النعمة فيقع في اليأس. وأمّا المسلم ، فيعتقد أنّ تلك النّعمة إنّما حصلت من فضل الله وإحسانه ، فلا ييأس ، بل يقول لعلّه يؤخّرها إلى ما هو أحسن ، وأكمل ممّا كانت ، وأمّا أنّ الإنسان يكون كفورا حال تلك النعمة ، فإنّ الكافر لمّا اعتقد أنّ حصولها كان على سبيل الاتفاق ، أو أنّه حصلها بجدّه واجتهاده ، فحينئذ لا يشتغل بشكر الله على تلك النّعمة والمسلم يشكر الله تعالى.
والحاصل أنّ الكافر يكون عند زوال النّعمة يئوسا وعند حصولها كفورا.
وأمّا انتقال الإنسان من المحنة إلى النّعمة ، فالكافر يكون فرحا فخورا ؛ لأنّ منتهى طبع الكافر هو الفوز بهذه السّعادات الدّنيوية ، وهو منكر للسعادات الأخرويّة.
قوله : «لفرح» قرأ الجمهور بكسر الرّاء ، وهو قياس اسم الفاعل من «فعل» اللّازم بكسر العين نحو : أشر فهو أشر ، وبطر فهو بطر ، وقرىء (١) شاذا «لفرح» بضمّ الرّاء نحو : يقظ ويقظ ، وندس وندس.
قوله : (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنّه منصوب على الاستثناء المتّصل ، إذ المراد به جنس الإنسان لا واحد بعينه.
والثاني : أنّه منقطع ، إذ المراد بالإنسان شخص معين ، وهو على هذين الوجهين منصوب المحلّ.
والثالث : أنه مبتدأ ، والخبر الجملة من قوله : (أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) وهو منقطع أيضا. والمعنى : أنّ هؤلاء لا يكونون عند البلاء من الصّابرين وعند الرّاحة والخير من الشّاكرين.
قال الفراء : هو استثناء منقطع معناه : لكن الذين صبروا وعملوا الصّالحات ؛ فإنّهم إن يأتهم شدة صبروا ، وإن نالوا نعمة شكروا.
__________________
(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١٥٤ ، البحر المحيط ٥ / ٢٧ ، الدر المصون ٤ / ٨٢.