المصدر. قال أبو البقاء (١) : «ولم أعلم أحدا قرأ بالفتح».
قال شهاب الدّين (٢) : لأنّ المصدر ليس حاويا له ولا ظرفه ؛ فكيف يقرأ به إلّا بمجاز بعيد؟.
وأصله : من العزل ، وهو التّنحية ، والإبعاد تقول : كنت بمعزل عن كذا ، أي : بموضع قد عزل منه ، قيل : كان بمعزل عن السفينة ، لأنه كان يظنّ أنّ الجبل يمنعه من الغرق.
وقيل : كان بمعزل عن أبيه وإخوته وقومه ، وقيل : كان في معزل من الكفار كأنّه انفرد عنهم فظنّ نوح أنّ ذلك محبة لمفارقتهم.
فصل
اختلفوا في أنه هل كان ابنا له؟ فقيل : كان ابنه حقيقة لنصّ القرآن ، وصرف هذا اللفظ إلى أنّه رباه ، فأطلق عليه اسم الابن لهذا السّبب ، صرف للكلام عن حقيقته إلى مجازه من غير ضرورة ، والمخالف لهذا الظّاهر إنّما خالفه استبعادا لأن يكون ولد الرسول كافرا ، وهذا ليس ببعيد ؛ فإنّه قد ثبت بنصّ القرآن أنّ والد الرسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ كان كافرا ، فكذلك ههنا.
فإن قيل : لمّا دعا وقال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح : ٢٦] فكيف نادى ابنه مع كفره؟.
فالجواب من وجوه :
الأول : أنّه كان ينافق أباه ؛ فظنّ نوح أنّه مؤمن ؛ فلذلك ناداه ، ولو لا ذلك لما أحب نجاته.
الثاني : أنه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ كان يعلم أنه كافر لكن ظنّ أنه لمّا شاهد الغرق ، والأهوال العظيمة فإنّه يقبل الإيمان ، فكان قوله : (يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا) كالدّلائل على أنّه طالب منه الإيمان ، وتأكد هذا بقوله : (وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) أي : تابعهم في الكفر ، واركب مع المؤمنين.
الثالث : أنّ شفقة الأبوة لعلّها حملته على ذلك النداء ، والذي تقدّم من قوله : (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) [هود : ٤٠] كان كالمجمل ، فلعلّه جوّز ألّا يكون هو داخلا فيه.
وقيل : كان ابن امرأته ، ويدلّ عليه ما تقدّم من القراءة.
وقال قتادة : سألت الحسن عنه فقال : والله ما كان ابنه فقلت : إنّ الله ـ تعالى ـ حكى عنه أنه قال : (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) وأنت تقول : ما كان ابنا له ، فقال : لم يقل : إنّ ابني منّي ، وإنّما قال : من أهلي ، وهذا يدلّ على قولي (٣).
__________________
(١) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ٢ / ٣٩.
(٢) ينظر : الدر المصون ٤ / ١٠١.
(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٩ / ٣٢).