تنبيها على قول من يقول هما سورة واحدة ، وعلى هذا القول لا يلزم منه تجويز مذهب الإماميّة ؛ لأنه لمّا وقع الاشتباه في هذا المعنى بين الصّحابة لم يقطعوا بأحد القولين ، وهذا يدل على أنّ هذا الاشتباه كان حاصلا ، فلمّا لم يتسامحوا بهذا القدر من الشّبهة دلّ على أنّهم كانوا مشددين في ضبط القرآن عن التحريف والتّغيير ، وذلك يبطل قول الإماميّة.
الوجه الرابع : أنّه تعالى ختم سورة الأنفال بإيجاب موالاة المؤمنين بعضهم بعضا ، وأن يكونوا منقطعين عن الكفار بالكليّة. ثم إنّه تعالى صرّح بهذا المعنى في قوله : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِه) فلمّا كان هذا عين ذلك الكلام ، وتأكيدا له وتقريرا له ، لزم الفاصل بينهما وكان إيقاع الفاصل بينهما تنبيها على كونهما سورتين متغايرتين ، وترك كتابة البسملة تنبيها على أنّ هذا المعنى هو عين ذلك المعنى.
الوجه الخامس : قال القرطبيّ : «قيل : إنه كان من شأن العرب في الجاهليّة ، إذا كان بينهم وبين قوم عهد فأرادوا نقضه كتبوا إليهم كتابا ولم يكتبوا فيه البسملة ، فلمّا نزلت سورة براءة بنقض العهد الذي كان بين النبيّ صلىاللهعليهوسلم وبين المشركين ، أمر النبيّ صلىاللهعليهوسلم بكتابته بغير بسملة ، وبعث بها عليّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ ، فقرأها عليهم في الموسم ولم يبسمل على ما جرت به عادتهم في نقض العهد من ترك البسملة».
قال ابن عباس : سألت عليّا ـ رضي الله عنه ـ : لم لم تكتب «بسم الله الرحمن الرّحيم» ههنا؟ قال : لأنّ «بسم الله الرحمن الرحيم» أمان ، وهذه السّورة نزلت بالسّيف ونبذ العهد ، وليس فيها أمان (١).
ويروى أنّ سفيان بن عيينة ذكر هذا المعنى وأكده بقوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً) [النساء : ٩٤] فقيل له : أليس لنبيّ صلىاللهعليهوسلم كتب إلى أهل الحرب «بسم الله الرحمن الرّحيم»؟ فأجاب عنه : بأنّ ذلك ابتداء منه بدعوتهم إلى الله تعالى ، ولم ينبذ إليهم عهدهم ، ألا ترى أنّه قال في آخر الكتاب (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) [طه : ٤٧].
وأما هذه السّورة فقد اشتملت على المقاتلة ونبذ العهد ، فظهر الفرق.
الوجه السادس : قالت الشافعيّة : لعلّ الله تعالى لمّا علم من بعض النّاس أنّهم يتنازعون في كون «بسم الله الرّحمن الرّحيم» من القرآن ، أمر بأن لا تكتب ههنا ، ليدل ذلك على كونها آية من كل سورة ، فإنّها لما لم تكن آية من هذه السّورة لا جرم لم تكتب وذلك يدلّ على أنّها لمّا كتبت في أول سائر السّور وجب كونها آية من كلّ سورة ، وقد يعكس عليهم ذلك فيقال : لو كانت آية من كل سورة لما أسقطها من هذه السورة؟.
__________________
(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣٧٧) وعزاه إلى أبي الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس.
قلت : وقد أخرجه الحاكم في «المستدرك» (٢ / ٣٣٠).