وقيل : إنّ المشركين قالوا لليهود : نحن سقاة الحجيج ، وعمار المسجد الحرام ، فنحن أفضل أم محمد صلىاللهعليهوسلم وأصحابه؟ فقالت اليهود لهم : أنتم أفضل.
قال ابن الخطيب (١) : «هذه المفاضلة تحتمل أن تكون جرت بين المسلمين ، ويحتمل أن تكون جرت بين المسلمين والكفار ، أمّا كونها جرت بين المسلمين ، فلقوله تعالى بعد ذلك (أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ ،) وهذا يقتضي أن يكون للمرجوح درجة أيضا عند الله ، وذلك لا يليق إلّا بالمؤمنين ، وأمّا احتمال كونها جرت بين المؤمنين والكفار ، فلقوله تعالى (كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ) وهذا يدل على أنّ هذه المفاضلة وقعت بين من لم يؤمن بالله وبين من آمن بالله».
وهذا هو الأقرب ؛ لأن المفسرين نقلوا في تفسير قوله تعالى : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) أنّ العباس احتجّ على فضائل نفسه ، بأنّه عمر المسجد الحرام ، وسقي الحاج ، فأجاب الله عنه بوجهين :
الأول : ما تقدّم في الآية الأولى : أنّ عمارة المسجد الحرام توجب الفضيلة إذا كانت صادرة عن المؤمن ، أمّا إذا صدرت عن الكافر ، فلا فائدة فيها ألبتة.
والثاني : هذه الآية ، وهو أن يقال : سلّمنا أنّ عمارة المسجد الحرام ، وسقي الحاج ، يوجب نوعا من الفضيلة ، إلّا أنها بالنسبة إلى الإيمان والجهاد كمقابلة الشيء الشّريف الرفيع جدّا بالشّيء الحقير التافة جدّا ، وإنّه باطل ، وبهذا الطريق حصل النظم الصحيح لهذه الآية بما قبلها.
فصل
روى عكرمة عن ابن عبّاس أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم جاء إلى السّقاية فاستسقى ، فقال العبّاس : يا فضل اذهب إلى أمك فأت رسول الله صلىاللهعليهوسلم بشراب من عندها ، فقال : اسقني. فقال يا رسول الله صلىاللهعليهوسلم : إنّهم يجعلون أيديهم فيه ، قال : اسقني ، فشرب منه ، ثم أتى زمزم وهم يستقون ويعملون فيها ، فقال : اعملوا فإنّكم على عمل صالح ، ثم قال : لو لا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هذا ، يعني : عاتقه (٢) وأشار إلى عاتقه.
وعن بكر بن عبد الله المزنيّ : قال : كنت جالسا مع ابن عبّاس عند الكعبة فأتاه أعرابيّ فقال : ما لي أرى بني عمكم يسقون العسل واللبن وأنتم تسقون النبيذ؟ أمن حاجة بكم؟ أمن بخل؟ فقال ابن عبّاس : الحمد لله ما بنا من حاجة ولا بخل ، إنّما قدم النبي صلىاللهعليهوسلم على راحلته ، وخلفه أسامة ، فاستسقى ، فأتيناه بإناء من نبيذ فشرب ، وسقى فضله
__________________
(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٦ / ١٠.
(٢) أخرجه البخاري (٣ / ٥٧٤) كتاب الحج : باب سقاية الحاج حديث (١٦٣٤) والبيهقي (٥ / ١٤٧) من طريق عكرمة عن ابن عباس.