جاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ)(٩٥)
قوله تعالى : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً) القصة.
أي : وأرسلنا إلى ولد مدين وهو اسم ابن إبراهيم ـ عليهالسلام ـ ، ثم صار اسما للقبيلة.
وقال كثير من المفسّرين : مدين اسم مدينة ، وعلى هذا فتقديره : وأرسلنا إلى أهل مدين ، فحذف «أهل» ، كقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] أي : أهل القرية.
واعلم أنّ الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسّلام ـ أول ما يبدؤون بالدعوة إلى التّوحيد ، ولذلك قال شعيب ـ عليه الصلاة والسّلام ـ : (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) ثم بعد الدّعوة إلى التوحيد يشرعون في الأهم ، فالأهم ، ولما كان المعتاد في أهل مدين البخس في المكيال والميزان ، دعاهم إلى ترك هذه العادة ، فقال : (وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ).
قوله : (وَلا تَنْقُصُوا) : «نقص» يتعدّى لاثنين ، إلى أولهما بنفسه ، وإلى ثانيهما بحرف الجرّ ؛ وقد يحذف ؛ تقول : نقصت زيدا من حقّه ، وحقّه ، وهو هنا كذلك ، إذ المراد : ولا تنقصوا النّاس من المكيال ، ويجوز أن يكون متعدّيا لواحد على المعنى.
والمعنى : لا تقلّلوا وتطفّفوا ويجوز أن يكون «المكيال» مفعولا أول ، والثاني محذوف ، وفي ذلك مبالغة ، والتقدير : ولا تنقصوا المكيال والميزان حقّهما الذي وجب لهما ، وهو أبلغ في الأمر بوفائهما.
قوله تعالى : (إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ) قال ابن عبّاس : موسرين في نعمة (١). وقال مجاهد : كانوا في خصب وسعة ؛ فحذّرهم زوال النعمة ، وغلاء الأسعار ، وحلول النقمة إن لم يتوبوا (٢).
(وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) يحيط بكم فيهلككم.
قال ابن عبّاس : أخاف : أي : أعلم (٣).
وقال غيره : المراد الخوف ؛ لأنه يجوز أن يتركوا ذلك العمل خشية حصول العذاب.
قوله : «محيط» صفة لليوم ، ووصف به من قولهم : أحاط به العدوّ ، وقوله : (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) [الكهف : ٤٢].
قال الزمخشري (٤) : إنّ وصف اليوم بالإحاطة أبلغ من وصف العذاب بها قال : لأنّ
__________________
(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٩٧).
(٢) انظر المصدر السابق.
(٣) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٨ / ٣٣).
(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٤١٧.